الخطبة الثانية
  للهجرةِ وتحصيلِ العلم ومجالسةِ العلماء، بل أصبحَ طالبُ العلم موضعَ سخريةِ السفهاءِ، جاهلين أو متجاهلين لقدرِه، ولقدرِ العلمِ الذي يتعلمُه، والطريقِ التي يسلُكها، ويرون أن مَن انظمَّ إلى رَكْبِ أولئك السابقين و بحثَ عمّا يُعَرِّفُه بربِّه وكيفيةِ طاعته أنه رجلٌ ضعيف لا قيمةَ له في مجتمعه.
  ولهذه النظرةِ حقروا العلمَ وأهلَه، فلما رأى العلماءُ الناسَ على هذه الحالةِ المؤسفةِ التي غمرتهم، والجهالةِ العمياءِ التي خيمت عليهم، ولم يروا من يستجيبُ لدعوتِهم، ولما يصلح أمر دينهم، وطلب العلم الصحيح الذي يرضي اللهَ ورسولَه ÷.
  ألجأَهم الحالُ وكلفَتْهم الشريعةُ بالخروجِ والدعوةِ للناسِ في بلدانِهم وفي مساجدِهم وبين أهليهم، وقل أن تجدَ لهم آذانا صاغيةً، وقلوباً واعيةً تستجيب لأمرِ الله ويتقبلون أحكام دينه.
  أصبح العلمُ يعرض عرضَ السلعةِ الرخيصةِ في السوقِ الكاسدةِ، لا تجدُ لها من يشتريها، وهكذا بدأَ الإسلامُ غريباً وعاد غريباً فطوبى للغرباء.
  كيف ذلك: الناسُ كانوا قد اعتادوا الحالةَ التي سلفَ ذكرُها، وجُبِلَتْ قلوبُهم عليها، ظانين أنها المقصودةُ بالذاتِ، وأنها هي الشرائعُ التي جاءَ بها الرسلُ من عندِ اللهِ لا غير، وقاموا بأدائِها على تلك الهيئاتِ والكيفياتِ، التي ألفوها فقط، فتمسكوا بها، مطمئنين بفعلِها وتطبيقِها، ظانين أنهم قد بلغوا المقصودَ في العبادَةِ، وزينَ لهم الشيطانُ ما كانوا يعملون.
  فلما أتى العلماءُ والدعاةُ إلى اللهِ لتذكيرِ الناسِ وتعليمِهم أمورَ دينِهم وتوضيحِ ما التبسَ عليهم، حينئذٍ رأى الناسُ وسمعوا من العلماءِ مالم يسمعوا به من قبلُ، وأوجبوا عليهم أشياءَ ما كانت لتخطرَ لهم على بالٍ، استغربوه ورفضوه واستنكروا بعضَ تعاليمِه بحجةِ أنه دينٌ جديدٌ، وشيءٌ مبتدعٌ، حالهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}.