الخطبة الثانية
  كانوا قد ألفوا استماعَ الغناءِ، واختلاطَ الرجال بالنساءِ، وكشفَ العوراتِ والتبرجَ في الشوارِعِ، ونحوَ ذلك من المنكراتِ، وشبُّوا عليها جيلاً بعد جيلِ فألفوها وجرت عليها عادتُهم، فلما نهو عن ذلك وعلموا أنه حرامٌ، ولا يحق لمؤمنٍ أن يفعلَه استنكروا ذلك وتعاظموه، وآثروا الاستمرارَ على ما هم عليه، اتباعاً للهوى، وإصراراً على الضلالةِ والردى، ومكابرةً ومحاربةً للهدى والمهتدين، فتراهم حين تنهاهم مثلاً عن مصافحةِ غيرِ الأرحامِ، يقولون: ما هذا الدينُ، وإذا قيل لأحدِهم: اتركِ الغناءَ، يقول: من أين جئتم بهذا الدينِ الجديدِ؟
  وإذا أمرت أحداً بسترِ عورته، سخرَ واستهزأَ، ويقولُ في غرابةٍ: ما هذا الدينُ؟ ما رأينا المصايبَ إلا من حين جاءَ هذا الدينُ، حالَهم في ذلك كلِّه {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} فتراهم إن أصابَ البلادَ بَرَدٌ أو جدبٌ، يقولون ما رأينا المصايبَ إلا من حين جاءَ العلمُ، من حين جاء الدين.
  أيُّ كلامٍ هذا في الدينِ والإيمانِ الذي هو مصدرُ كلِّ خيرٍ ونعمةٍ ومنبعُ كلِّ فضيلةٍ؟ الذي قال اللهُ فيه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
  لو أطاعوا من أنذرَهم، واتبعوا الهدى الذي جاءوا به لما لقوا إلا الخيرَ، والبركةَ في المالِ والأولادِ والأمطارِ، كما قال الله سبحانه على لسان نبيه نوح #: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ١٠ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً ١١ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً}.
  {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ١٢٥ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ١٢٦ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.