سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 173 - الجزء 1

  وينهبُ حلالَه لا يحلون حلالاً ولا ينكرون منكرا. يعيثون في الأرض فساداً. بدوٌ رُحَّل، الفقرُ قد أزراهم والجهلُ قد أعماهم {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.

  فأرسلَ اللهُ إليهم خاتمَ رُسُلَه، وصفوةَ خلْقِه، فدعاهم ووعظَهم وأرشدَهم، وصبرَ على غلظتِهم وعلى جفوتِهم، وعلى مالقي من أذاهم وبلاهم. وبالصبرِ وقوةِ الإرادةِ وصدق العزيمةِ والإيمانِ - استطاع أن يحوِّلَ تلك الوحوشَ الضاريةَ والأعرابَ العاريةَ، إلى أسودٍ بواسل وجبالٍ من الإيمان.

  استطاع بقوةِ العقيدةِ أن يصنعَ من أعراب تلك الباديةِ القاحلةِ، ومن رعاةِ الأغنامِ والأبقارِ رجالاً وأيَّ رجال {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.

  من مدرسةِ محمدِ بنِ عبدِاللهِ تخرّج رجالٌ ضربوا أروعَ المُثُل في التضحيةِ والفداءِ، رجالٌ سطرُوا سيرَهم بأحرفٍ من نورٍ على صفحاتِ التاريخِ في الشدةِ والرخاءِ. رجالٌ دوخوا مشارقَ الأرضِ ومغارِبَها.

  هدُّوا معاقلَ كسرى وحصونَ قيصر. أذاقوا الفُرْسَ والرومانَ ألوانَ الذل والخزي والهوان، جابوا مشارقَ الأرضِ ومغاربها، وداسوا بحوافرِ خيلِهم أعتى الممالك وأقوى المعاقل. لم يثنِهم كثرةُ العددِ والعدةِ، ولا وهنوا للبعدِ والشدةِ، وما ضعفوا لطولِ المدة.

  وذلك قول الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} رفعوا راياتِ الإسلامِ خفاقةً على أرجاءِ المعمورةِ، ترفرفُ حاملةً بين طياتِها كلمةَ التوحيدِ لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله.