الخطبة الثانية
  أعظمُ عبرةٍ وأبلغُ موعظةٍ.
  فقد كان من أهلِ الصِّفَّةِ ومن أصحابِ المسكنةِ كغيرِه من الفقراءِ.
  وكان ملازماً لرسولِ الله ÷ مواظباً على الصلاةِ مهتما بأوامرِ الدين ليس عنده ما يشغله عن عبادةِ ربه وعن الصلاةِ، وكان يُلَقبُ بحمامةِ المسجدِ لكثرةِ ملازمتِه للمسجدِ وحرصِه على الجماعاتِ، وقد اقتضت حكمةُ الله أن يبقى فقيراً، وأنه لا خيرَ في غناه، ولكن ثعلبةَ أصرّ على أن يُخالفَ إرادةَ الله ولم يرضَ بما قسمَه اللهُ له.
  فقال ذات يومٍ لرسولِ الله ÷: ادع اللهَ أن يرزقني مالاً.
  فقال رسول الله: ويحك يا ثعلبةُ قليلٌ تؤدي شكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تطيقه.
  فلم يلتفت ثعلبةُ إلى قولِ رسولِ الله ÷ ولم يسمعْ لنصحِه.
  بل ألحَّ على الرسولِ ÷ في أن يدعو اللهَ له بالرزقِ فقال ÷: «أما ترضى أن تكونَ مثلَ نبيِّ اللهِ، فو الذي نفسي بيده لو شئتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسارت».
  فلم يقنع ثعلبةُ بقولِ رسول الله ÷ ولم يرض أن يتأسى بنبي الله بل قال: والذي بعثك بالحقِّ لئن دعوتَ اللهَ فرزقَني مالاً لأعطينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقه، فلما أيسَ رسولُ الله ÷ من انصياعِه لنصحِه، قال: «اللهم ارزق ثعلبةَ مالاً».
  ثم إن ثعلبةَ ذهبَ فاتخذ له غنماً فنمت كما ينمو الدودُ، وتكاثرت بفضلِ دعاءِ النبي ÷ حتى ضاقت عليه المدينةُ، فخرج منها إلى بعضِ الشعابِ، حتى أنه لم يعدْ يصلي إلا الظهرَ والعصرَ مع القومِ في جماعةٍ ويتركُ ما سواهما، ثم إن أموالَه كثرت وزادت فتنحى إلى خارجِ المدينةِ وشُغِلَ بأغنامِه وأموالِه، وتركَ الجماعاتِ ولم يعدْ يحضر إلا لصلاة الجمعة، ثم إن أمواله نمت وكثرت حتى ترك الجمعة، وابتعد عن رسول الله ÷، وانقطعت عنه الأخبارُ، فكان يتلقى الركبانَ يومَ الجمعة عند عودتهم من الصلاة مع رسول الله ليسألَهم عن الأخبارِ.