الخطبة الأولى
  ملأها بالبلاءِ وجعلها مقراً للهمِّ والشقاء، ولم يجعلْ فيها ما يدعوا لحبِّها والاشتغالِ بها عن الآخرةِ، ومع ذلك نرى من يبحث فيها عن السعادةِ وينقب عن الراحةِ والمسرة، فيزين له الشيطان الدنيا وخدعه بزخرفها فظن أنها الغاية وأنه مخلد فيها.
  عبادَ الله: إن الله لم يخلق الدنيا للراحةِ ولم يجعلْها مقراً للمسرَّةِ والسعادة، إنما جُعِلَت الراحةُ في الصحةِ والسلامةِ، وإتباعِ أمرِ الله وتطبيقِ نهجِه وإتباعِ شرعِه كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ولذا نرى كثيراً من الناس في هذا الزمانِ يشكون الهمَّ والضيق ويعانون من القلقِ والاكتئابِ وما ذلك إلا لبُعدِهم عن اللهِ وإعراضهم عن ذكره كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
  عبادَ الله: إن السعادة ليست في المال ولا في القوةِ والسلطان، ولكنها في غنى النفس والصحةِ والأمنِ كما قال ÷: «مَن أصبحَ آمنا في سربه معافاً في بدنِه له قوتُ يومِه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»، فكم من غنيٍ مترفٍ خائفٍ على نفسِه لا ينتقلُ الا بالجنودِ والحراسِ يتمنى أن يأمنَ على نفسِه ولو لم يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، من الأغنياء من ابتلوا بالأمراضِ التي عجز من علاجِها الأطباءُ ولم ينفع فيها دواءٌ يتمنون العافيةَ ولو لم يملكوا من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، فالدنيا بلاء وصاحبها معذب كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
  فأهل الدنيا وأصحابُ الغنا ليسوا في راحةٍ كما يظنهم من يراهم، بل هم في شقاءٍ، أرواحُهم معذبةٌ وهم على الدوامِ في همِّ وقلقٍ.
  عبادَ الله: إن الإنسانَ يبحثُ عن المالِ ليرتاحَ به وليستفيدَ منه، ولكنه على العكسِ من ذلك، فهو يعملُ ويكدُّ ليلاً ونهاراً في حرِّ الشمسِ وألمِ البردِ عاماً