سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 272 - الجزء 1

  بعد عامٍ حتى يمضى عمرُه وهو يوعدُ نفسَه بالراحةِ هذا العام أو في هذا الشهرِ وتمرُّ الأعوامُ وهو على هذا الحال، حتى لقمت العيش يأكُلها على عجلٍ، وحتى ثيابَه التي اشتراها وزينتَه التي اقتناها، تمضي عليها الشهورُ لم يفرغ لها ليلبسَها لم يستلذ بجلسةٍ مع أهلِه يضاحكُهم ويسامرُهم ولم يفرغ لأبنائه يداعبهم ويلاعبهم، بل على العكس من ذلك فبيتُه في ثورةٍ وخصامٍ بين الأبناءِ، وعداوةٍ بين النساءِ، واختلافٍ مع الإخوةِ، قد ذهبت من بيتِه المودةُ والإخاءُ، وحلّت فيه العداوةُ والبغضاءُ وامتلأت قلوبُ أهلِه بالأحقادِ الضغائنِ، والمشاكلِ التي لا نهايةَ لها، فهو يمسي مهموماً ويصبحُ مغموماً في ضيقٍ وهمٍّ، وعلى قدرِ ما ملك من الدنيا يأتيه التعبُ والشقاءُ، فهناك مِن أهل الدنيا من تغرّبَ عن الأوطانِ وهجرَ الأهلَ والإخوانَ، يسافرُ من مكانٍ إلى مكانٍ ولا يراه أهلُه إلا كالضيفِ في رأسِ العامِ، لقد أصبح غريباً على أبنائِه يستوحشون منه ولا يألفونه إذا عاد إليهم في مناسبةٍ أو عيدٍ، وليته يعودُ إليهم بالراحةِ وطلاقةِ الوجه ويستقبلهم بالابتسامةِ والحنانِ بل يُقبل عليهم بوجه مكفهر عبوس يشكو إليهم تعبه ويحملهم همه ويُحوّل أعيادهم إلى جحيم.

  عبادَ الله: أن أهلَ الدنيا لم يضيعوا أنفسَهم وأولادَهم فحسب، بل لقد أضاعوا حتى آخرتَهم وقصّروا في حقِّ الله، فصلاتُهم دائماً على عجلٍ بلا خشوعٍ ولا خضوعٍ يصلونها مرة على الطريق، ومرة في الشارعِ، وأحياناً يتركونها، وهذه مصيبة عظيمة أن يهمل الإنسان نفسه ويهجر أهله ويضيع أبنائه ووصية الله التي قلد بها عنقه، فيحرمهم حتى من تعلم ما أوجب الله عليهم من صلاة وصيام فهمه أن يشبعهم وأن يسعى ليطرد عنهم جوع الدنيا وحاجتها، وينسى أن يقيهم حر النار الكبرى كما أمره الله بقوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}.

  وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}.