سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 26 - الجزء 1

  عبادَ الله: إن للقرآنِ عظمةً لا توازيها عظمةٌ، فهو كلامُ اللهِ ووحيُه إلى نبيِه، جعلَه اللهُ مهيمناً على كلِّ الكتبِ، وتحدى اللهُ بِهِ معشرَ الثقلين، من الجنِّ والأنسِ على أن يأتوا بسورةٍ مِن مثلِه. ولقد كانت له منزلةٌ عظيمةٌ في صدورِ السابقين، فما سمعه بشرٌ إلا تابَ وأنابَ، وأذعنَ إلى الملكِ الوهابِ، إلا مَن رَكِبَهُ الكبرُ واتبعَ هواه، إذا تُلِيَتْ عليه آياتُنا مرَّ مستكبراً كأنْ لم يسمعْها، أمَّا المؤمنون فإنهم إذا تُلِيَتْ عليهم آياتُه زادتْهُم إيماناً، {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}، حتى مردة الجانِّ أذعنوا للهِ واتبعوا أمرَه، ولم يرتكبوا متونَ زجرِه، بمجردِ أن سمعوا آياتِه {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً}.

  كلُّ مخلوقٍ على وجهِ هذهِ الأرضِ أهدى مِن ابنِ آدم وأسرعُ منه في إجابةِ نداءِ ربِه، والامتثالِ لأمرِه، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.

  وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.

  عبادَ الله: إنَّ الجنَّ ليسوا بأشدَّ من بني آدمَ غلظةً وفظاظةً، بل إنهم قد يكونون أسرعَ في تَقَبُّلِ الحقِّ، إذا وضحتْ لهم أعلامُ الهدى أتوا إليها مذعنين غيرَ آنفين ولا مستكبرين، كما أخبر اللهُ تعالى عنهم بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ٢٩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}.