الخطبة الثانية
  ينساها الناس، ولا يذكرونها إلا وقت العلة والمرض كما قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً}.
  وكذا نعمةُ الأمنِ والأمانِ فإنها من أعظمِ النعم التي نعيشُ في ظلها لسنواتٍ طويلةٍ، ونسرحُ ونمرحُ حيثما نشاءُ، وفي أيِّ وقتٍ نُريد من ساعاتِ الليلِ والنهارِ، دون رقيبٍ أو حسيبٍ سوى الله. ومع كل ذلك لم نشكر تلك النعمة، ولا قدّرنا فضل السلم والسلام، الذي من الله به علينا، وحُرم فضله كثير من الناس.
  عبادَ الله: مَن مِنا يُحسُّ بتلكَ النعمةِ ويقدرُ ثمنَها، ومن الذي يشكرُ اللهَ على تلك المنةِ، وذلك الفضلُ الذي لا يعدله نعمةٌ، ولعظيمِ فضلِها فإن اللهَ سبحانَه قدم ذكرَ بلوى الخوفِ في القرآنِ، قبلَ كلِّ بليةٍ، وابتدئَ بذكرِه قبل بلوى الجوعِ والموتِ، وغير ذلك حيث قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} فبدأ بذكرِ الخوفِ قبلَ الجوعِ والموتِ وهلاكِ الأموالِ والأنفسِ وما ذلك إلا لشدةِ بلوى الخوفِ، ولفضلِ نعمةِ الأمنِ وعظيمِ قدرِها خصها الله بالذكر في كتابه في سورة كاملة وأمتن بها على قريش قال تعالى: ﷽ {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فجعلَ تأمينَهم من الخوفِ وإطعامَهم من الجوعِ نعمةً يجبُ أن يُشكَرَ اللهُ عليها ويُعبدَ لأجلها.
  عبادَ الله: إنَّ فتنَ هذا الزمانِ تُعَرِّفُنا قيمةَ الأمنِ، وتجعلُنا نحسُّ بلذةِ العافيةِ والنعمةِ والسلامةِ، ومن هذه المواقفِ يظهرُ لنا ضعفَ يقينِنا باللهِ وانقطاعِ صلتِنا بمالِكِ الملوكِ، الذي بيدِه مقاليدُ السماواتِ والأرضِ يقلبُها كيفَ يشاءُ، وكل هذه الفتنِ والمحنِ إنما أراد الله أن يؤدب بها عباده، ليفيقوا من غفلتهم ويعودوا إلى رشدهم قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} فهذه كلها اختبارات وامتحانات يبتلي بها الله