الخطبة الأولى
  هَزُلَ وَضَعُفَ، فَكَذاَ الْرَّوحُ إِذَا قَلَّ غِذَاؤُهَا، فَإِذا كانَ في الذِّكرِ طَمَأْنِينَةٌ فَإِنَّ فِي تَرْكِهِ ضَيقَا وَضَنَكًا، كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه ١٢٤] وَكَذَا فإِنَّ الإيمَانَ وَالْعَمَلَ الْصَالِحَ يَجْلِبُ لِصَاحِبِةِ الْسَّعَادَةَ وَالْحَياةَ الطّيبَة.
  يَقولُ اللهُ ø فِي حَقِّ المُؤمِنِين {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[النّحل ٩٧] وَقَدْ أخْبَرَ تَعَالَى عَن حَالِ الْمُهْتَدِي والضّالِّ، وَصَوَّرَ حَالَهُمَا وَالْفَرقَ بينِهِمَا بِقَولِهِ: {مَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام ١٢٥] فَبَيّنَ لَنَا أنَّ الْمُهْتَدِيَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ طَيبَةٍ مِنْ انشِراحِ الصَّدرِ وَالانْبِسَاطِ، وَأنَّ الضَّالَ يَكُونُ في حَالَةٍ سَيّئةٍ مِنْ الضّيقِ والقَلَقِ، والكَبْتِ الحَرِجِ الَذَي لا يَجِدُ مَخْرَجاً مِنْه.
  عبادَ الله:
  إِنَّ الّذِينَ يَسْعَونَ في تَطهِيرِ أنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، وَالْمُهْتَمّينَ بِسَلَامَةِ قُلُوبِهِم مِنَ الأمْرَاضِ وَالآفَاتِ هُمْ أهلُ الفَوزِ وَالنَّجَاةِ غَدَاً بَينَ يَدَيِ اِللهِ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشَعراء ٨٨ - ٨٩] فَسلَامةُ الْقَلبِ مِنْ الأَمْرَاضِ هِيَ خَيرُ وِقايةٍ مِنْ عَذابِ النَّارِ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر ٩].
  عبادَ الله:
  إِنَّ مِنَ الْمُفَارَقَاتِ الْعَجِيبَةِ، والتَّنَاقُضَاتِ الغَرِيبَةِ هوَ ذلِكَ التَغايرُ بَينَ الروحِ وَالجَسَدِ رَغْمَ اجتِمَاعِهِمَا، واحْتِياجِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلآخَرِ، وعَدَمُ اسْتِغْنائِه عَنه، ومَعَ ذَلِكَ تَجِدُ بَيْنِهِمَا مِنْ الْاخْتِلافِ الْكَثيرِ، فَتَرى أنَّ الجِسْمَِ مِنْ تُرَابٍ وَمَرْجِعَهِ إِليه، والشّيءُ يَحِنُّ إِلى أصْلِهِ، فَغِذَاءُ الْجَسَدِ، مِنْ الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَعِلَاجُهُ فِيهَا وَرَاحَتُه في قُرْبِهَا.