سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 7 - الجزء 2

  أمَّا الروحُ فَهِيَ مِنْ رُوحِ اِللهِ نَفَخَها في هَذَا الْجَسَدِ ليسَتْ مِنْ الدُّنْيا، إِنَّها مِنْ العَالَمِ العُلْوِي، مِنْ عَالَمِ الرّوْحَانِيَّةِ من عَالَمِ الخُلْدِ وَالْجنَانِ.

  لَا رَاحةَ لَهَا في الدُّنْيَا تُحِبُّ الْهدُوءَ والسَكِينةَ، وتَكَرهُ الضَّوْضَاءَ، وَتَكْرَهُ الْكَسَلَ والنَّومَ والشِّبعَ، وَتُحبُّ الخِفَّةَ وَالْهدُوءَ، والجِدَّ والنّشَاطَ، تُحِبُّ الْنظَرَ إِلى السّمَاءِ وَالْتَّأمُلَ في المَلكُوتِ، وَالأفْلَاكِ الْعُلْياَ، إِنَّها تَحِنُّ إِلى أَصْلِهَا، وَتَشْتَاقُ إِلى مَوْطِنِها الْأَصْلِي إِلَى الرَّوحَانِيَّةِ والفَضِيْلَةِ، تَسْتَأْنِسُ بِكُلِّ مَا هُوَ إِيْمَانِيٌّ عُلْوُيٌّ، وَتَنْفُرُ مِنْ كلِّ مَا هُوَ طِينِيٌّ دُوْنِيٌّ، تَسْتَأْنِسُ بِالقُرْآنِ وَتَطْمَئِنُّ بِالذِّكْرِ وَمَجَالِسِ الْمَلَائِكَةِ، غِذَاؤُها في الْدُّعَاءِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَدَواؤُها بِالعِبَادَةِ والذِّكْرِ، رَاحَتُهَا في الْقُرْبِ مِنْ اللهِ وَإِتِّبَاعِ أمْرِه.

  عِبادَ اللهِ:

  الإنسانُ يَعيشُ حَرْباً نَفْسِيّةً ومعرَكَةً مُتَواصِلَةً تَنْشَأُ بَينَ رُوحِهِ الخَالِدَةِ وجَسَدِهِ الشَّهْوَانِي، فَالروحُ تُرِيدُ أَنْ تَرْقَى بِالْجَسَدِ إِلى الْعُلَى، إِلى دَارِ الخُلْدِ وَالْجِنانِ، إِلى أَصْلِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْه، إِلى مَقْعَدِ الصِّدْقِ عِنْدَ مَليكٍ مُقتَدِر، تُرِيدُ أنْ تَصْنَعَ مِنْ هذا الجَسَدِ الْآدَمِيِّ مَلَاكَاً يَعيِشُ عَلَى وَجْهِ هذِهِ الْأَرْضِ، يَحْمِلُ صِفَاتِ الْمَلائِكَةِ وَيتَخَلَّقُ بِأخْلَاقِهِمْ.

  تُريدُهُ أنْ يَحْيَا حَياةَ الكَمَالِ، وَأَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ الفَضيلةِ في العِفّةِ والطَّهارَةِ والصِّدْقِ والْوَفاءِ، والتَّحَلِّي بِالصَّبرِ والسَّمَاحَةِ وَحُسْنِ الخُلُقِ، وأنْ تَمْتَلِئَ نَفْسُهُ بِالرّحمةِ والْعطْفِ والحَنَانِ، وأنْ يَحيا قَلبُهُ بِالْعِلمِ والْمَعرِفَةِ والتَّقْوَى وَحبِّ الخيرِ.

  وَأَمَّا الجَسَدُ وَشَهواتُهُ الحيوانِيَّةُ فَإِنَّهُ يُرِيدُ مِنْ الْرُوحِ أنْ تَخْلُدَ مَعَهُ إِلى الأَرْضِ، إِلى حياةِ الْبَذَخِ والدَّعَةِ، لِيَعِيْشَ كَمَا تَعِيشُ الأنعامُ يأكُلُ ويَشْرَبُ، ويَخْلُدُ لِلكَسَلِ والنَّومِ، هَمُّهُ بَطْنُه وَفَرْجُهُ وإِشْبَاعُ مَلَذَّاتِه وَشَهواتِه، يُريدُ أنْ يَعِيشَ كَما تَعِيشُ الوُحُوشُ في الغابِ، في نِزاعٍ وَصِراعٍ، يَقْتلُ الْقَوىُّ الضَّعيفَ، ويَبْطِشُ الْكَبيرُ بِالصَّغِيرِ، بِلا رَحمةٍ وَلا شَفَقَةٍ، وَهَكَذَا تَسْتَمِرُّ الْحَيَاةُ، ويَسْتَمِرُّ النِّزاعُ إِلى أنْ تَكونَ