الخطبة الأولى
  في علاقةِ هذه النفسِ بالقرآنِ، ومقدارِ الصلةِ التي بينها وبين كتابِ اللهِ، وما سببُ عدمِ تأثرِها بكلامِ اللهِ؟
  إننا إذا ما عدنا إلى الوراءِ، إلى زمنِ هبوطِ الوحي، ووقتِ نزولِ القرآنِ، ونظرنا في أحوالِ أولئك القومِ، ومدى ارتباطِهم بالقرآن، وقوةِ تأثرِهم به فسوفَ نرى ما يُذهلُ العقولَ ويحيرُ الألبابَ، نرى أنه نزل على قومٍ أُمِّيين جُهلاء، وقريبي عهدٍ بالجاهليةِ، ومع ذلك فقد كانتْ لآيات القرآن أشدُّ الوقعِ في قلوبهم، وأبلغُ الأثرِ في نفوسِهم، وما إن قرعت آياتُه أسماعَهم حتى هزت مشاعِرَهم، وأخذت بمجامِعِ قلوبِهم، واستولت على أحاسيسِهم، وعلى الرُّغْمِ من غلظةِ قلوبِهم وقسوتِها إلّا أنها لم تلبث أن تضعضعتْ أمامَ وقعِ آياتِه، حتى الكفرُ والشقاقُ الذي رانَ على قلوبِهم لم يصمدْ أمامَ تلك الآياتِ، ولم يلبثْ أن تصدَّعَ وتفتتَ، لم يحلَّ بينهم وبين التأثر بالقرآن حائلٌ - لا كفرٌ، ولا جهلٌ ولا أيُّ شيءٍ سوى الكبرِ الذي جعلهم ينكرون ما يسمعون ...
  فهذا القرآنُ جَعَلَ قلبَ جُبيرِ بنِ مُطعمٍ يكادُ يطيرُ عندما استمع إلى بعضِ آياتِه كما رُوِيَ أنه قال: سمعتُ رسولَ الله ÷ يقرأُ في المغربِ بالطورِ وذلك أولُّ ما وقرَ الإيمانُ في قلبي.
  حتى لقد صدعوا بالشهادةِ بذلك رغمَ كفرِهم ولجاجِهم، ولا يلبثُ المشركُ بعد سماعِه إلا أن يُعلنَ كلمةَ التوحيدِ، وأن ينقادَ مُذعناً إليه، إلا مَن رَكِبَهُ الكبرُ، واتبع هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، مع أنه في قرارةِ نفسِه قد أيقن بصدقِها، وصدَّق مَن جاء بها.
  قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.