الخطبة الأولى
  وأبلغ شاهد على ذلك ما رُوِيَ أن الوليدَ بنَ المغيرةِ لما سَمِعَ النبيَّ يقرأُ {حم ١ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٢ غَافِرِ الذَّنْبِ} ... إلخ - انطلق حتى أتى مجلسَ قومِه بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنفاً كلاماً ما هو من كلامِ الإنسِ ولا من كلامِ الجنِّ؛ وإن له لحلاوةً وإن عليه لطلاوةً، وإن أعلاهُ لمثمرٌ وإن أسفله لمغدقٌ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزِله، فقالت قريشٌ: صبأ واللهِ الوليدُ، - أي: آمن - واللهِ لتصبأنَّ قريشٌ كلُّها، وكان يقالُ للوليدِ ريحانةُ قريشٍ، فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزيناً، فقال: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال: هذه قريشٌ يعيبونك على كِبَرِ سنِّك؛ ويزعمون أنك زَيَّنْتَ كلامَ محمدٍ، فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلسَ قومِه، فقال: أتزعمون أنَّ محمداً مجنون؟! فهل رأيتموه يخنق قط؟! فقالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه كاهن؟! فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟! قالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه شاعرٌ؟! فهل رأيتم أنه ينطق بشعرٍ قط؟! قالوا: اللهم لا، قال: أتزعمون أنه كذابٌ؟! فهل جَرَّبتم عليه شيئاً من الكذب؟! فقالو: اللهم لا، وكان يُسمى الصادق الأمين قبلَ النبوةِ مِن صِدْقِه؛ فقالت قريشٌ للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه، ثم نظرَ وعَبَسَ، فقال: ما هو إلا ساحرٌ، أما رأيتموه يُفَرِّقُ بين الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليه، فهو ساحرٌ؛ وما يقولُه سحرٌ يُؤْثَر!
  {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً}.
  عبادَ الله: لقد كان لكلامِ اللهِ تعالى مع أهلِ الشركِ، والجاهليةِ قِصَصٌ وحكاياتٌ ومواقفُ تهتزُّ لها النفوسُ، إذ كان عليهم أشدُّ وقعاً من ضربِ السيوفِ، يفعلُ فيهم فعلَ السحرِ، وما أصغى إليه أحدٌ فاستمَعَه إلا هدَّ أركانَه، ونفذَ إلى أعماقِه.