سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 43 - الجزء 1

  فكانوا من شدةِ تأثرِهم به يتجنبون سماعَه، ويسدونَ آذانَهم، ويغالطون أنفسَهم عندَ سماعِه بالصراخِ والتصفيقِ والصفيرِ خوفاً مِن أن تؤثرَ فيهم آياتُه.

  لقد كانت قريشٌ على ثقةٍ من أن الذي يسمعُ القرآنَ يهتدي به، لذلك أوصى بعضُهم بعضاً ألّا يسمعوا القرآنَ، وإذا سمعوه فعليهم أن يصنعوا ضجيجاً يحولُ بينَ السامِع للقرآن وتدبرِه. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.

  إنهم واثقون أن القرآنَ يقهرُهم بالحجةِ ويُفْحِمُهم بالبيناتِ، وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه حلاوةً وطلاوةً تستلُّ من قلوبِهم الجحودُ والنكرانُ، وكأنهم بذلك يشهدون أنَّ للقرآن أثراً في الفطرةِ الطبيعيةِ للإنسانِ، وهم أصحابُ الْمَلَكَةِ في البلاغةِ العربيةِ. ومع ذلك ظل الكافرون على عنادِهم بالرغمِ من عشقهم للأسلوبِ والبيانِ والأداءِ.

  ولم يكتفوا بضلالِ أنفسِهم، بل أرادوا إضلالَ غيرِهم، كما حكى اللهُ عنهم في قولِه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

  إنهم يخافون إنْ سمعوا القرآن أنْ يتأثروا به فيؤمنوا؛ لذلك لا تسمعوه، بل شَوِّشوا عليه حتى لا يسمعه أحدٌ في هدوءٍ واطمئنانٍ فيؤمنَ بِه؛ لأنهم لا يستطيعون رَدَّ حُجَجِ القرآنِ ولا الثباتَ أمامَ إعجازيتِه ولا بلاغتِه ولا تأثيره على النفوسِ، فهُمْ لا يملكون إلَّا أنْ يصرفوا الناسَ عن سماعِه، والتشويشِ عليه، حتى لا يتمكّنَ من الأسماعِ، وينفذَ إلى القلوبِ، فيخالطَها الإيمانُ.

  لكنهم مع عنادِهم، ومكابرتِهم يتلذذون بسماعِه، ويسعون بلا شعور ليشنفوا مسامعَهم بتلاوتِه.

  فقد رُوِيَ أنه لما نزلتْ سورةُ (النجم) تلاها الرسولُ ÷ على جمعٍ مِن قريشٍ، فأصغوا إليها أسماعَهم، وأسلموا أعِنَّةَ قلوبِهم، وانسابت مع آياتِ القرآنِ حتى تخدرتْ أجسامُهم، وذابتْ مِن حلاوةِ ألفاظِه وبلاغةِ آياتهِ، فلما بلغَ