الخطبة الأولى
  النبيُّ ÷ إلى قولِه تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} سجدوا لله تعالى فتهاوت رؤوسُ أهلِ الشركِ من كلِّ جِهة، وتطأطأت أعناقُ الكبرِ راغمةً بغيرِ شعورٍ منهم، واندستْ الأنوفُ الشامخةُ ساجدةً للهِ حتى تعفرت في الترابِ.
  هكذا كانت تفعلُ آياتُ اللهِ، خدرت منهم الأعضاءَ، ونفذتْ إلى صميمِ القلوبِ، فسَكِرَتْ من حلاوتِه، وطيبِ مذاقِه؛ فلما أفاقوا من وَقْعِ الصدمةِ قاموا، وقد تَعَفَّرَتْ وجوهُهم بالترابِ، يتلاومون ندماً على ما بدرَ منهم، ولم يجدوا لهم من عُذرٍ ولا ذريعةٍ يدفعون بها مَن لامَهم مِن بقيةِ قريشٍ، ويسترون به فضيحتَهم إلَّا أن نسبوا كذباً وزوراً إلى رسولِ الله ÷ أنه ذكر آلهتَهم، وأن شفاعتَها لتُرجى.
  ثم قرَّرُوا بعدَ ذلك مقاطعةَ القرآنِ، والامتناعَ عن سماعِه خوفاً مِن الافتتانِ به رغم شغفِهم وإدمانِهم على سماعِه، وتلذذِهم بِه.
  ولكنهم على الرغمِ من التهديدِ، والوعيدِ لم يطيقوا الصبرَ عنه، ولم يحتملوا البعدَ عنه، فكانوا يخرجون في الليلِ خِلْسَةً يسترقون السمعَ إلى رسول اللهِ وهو يصلي، وكل منهم يَظُنُّ بأنه وحدَه، ولكن لا يلبثون أن يكتشفوا أنهم قد خرجوا بأجمعهم لنفسِ الغايةِ و الغرضِ.
  فيُرْوَى أنّ بعضَ كبارِ زعماءِ قريشٍ مثل: النضرِ بنِ الحارثِ، وأبي سفيانَ، وأبي لهبٍ كانوا يتسلَّلُون بعدَ أن ينامَ الناسُ ممن كانوا يقولون لهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ والْغَوا فِيهِ} كانوا يذهبون إلى البيتِ الحرامِ يتسمَّعون لمحمدٍ وهو يقرأُ القرآنَ، ولماذا يحرمون أنفسَهم مِن سماعِ هذا الضربِ البديعِ من القولِ، وقد حرموا مواجيدَهم وقلوبَهم منه، فكانوا عند انصرافِهم يرى بعضُهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً، فكانوا مرةً يكذبون على بعضِهم بحججٍ واهيةٍ، ومرةً يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماعِ القرآنِ.