الخطبة الأولى
  فقالَ تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ..} أي: بالحالِ الذي يستمعون عليه {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بحال إعجاب. ثم: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ..} من التناجي وهو الكلامُ سِرّاً.
  عبادَ الله: هذه هي حالةُ أهلِ الشركِ مع القرآنِ، فقد كانَ مجردُ سماعِ أحدِهم للقرآنَ حجةً عليه، وكفيلاً بأن يؤثرَ فيه، وفي ذلك يقولُ الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} فكلامُ اللهِ تعالى كان له أبلغُ الأثَرِ في نفوسِ القومِ آنذاك.
  حتى الجن الذين منهم المردةُ والشياطينُ وهم أكثرُ شراسةً من البشرِ، لم يلبثوا بعدَ سماعِه مِن أن أخبتتْ له قلوبُهم، وأخذ منهم كلَّ مأخذٍ، فلم يكن منهم إلا أن أذعنوا إليه وأَسلموا بين يَدَيهِ كما حكى اللهُ ذلك بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} بل لقد صَوَّرَ اللهُ تعالى لنا حالَهم، وشدةَ تأثرِهم به أنهم آمنوا به فورَ سماعِه.
  ولقد وصفوه بأنه من الشيءِ العجبِ الذي به الهداية إلى طريقِ الرشادِ {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}.
  بل لقد كانوا من شدةِ حرصِهم على سماعِه، وقوةِ شغفِهم به، أن تكالبوا على رسولِ اللهِ ÷ وازدحمُوا عليهِ كما صَوَّرَ اللهُ تعالى ذلك بقولِه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي مجتمعين عليه كادوا أن يسقطوا عليه من شدةِ اجتماعِهم مِن حولِه، ولم يقفْ بهمُ الحدُّ عند ذلك، بل لقد أخذوا على أنفسِهم العهدةَ بأن ينقلوا هذا الكلامَ الطيبَ المباركَ إلى وقومِهم، وجعلوا من أنفسِهم دعاةً إلى قومِهم منذرين ومبلغين آياتِ اللهِ؛ كما وصف الله ذلك بقولِه: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ٣٠ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.