الخطبة الأولى
  والكرباتِ وهو ينظرُ إلى أهلهِ وأولادِهِ ومَنْ حولَهُ بنظرةٍ فيها إشفاقٌ، وفيها رجاءٌ، وفيها استعطافٌ، وكأنه يقول: لا تتركوني وحدي، ولا تُفْرِدُوني في لَحدي، افْدُوني بأعمارِكم، هل منكم مَنْ يزيدُ في عمرِي ساعةً أو ساعتين؟ أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم؟ ولكنه في وادٍ والناس في وادٍ آخرَ.
  ثم قال أمير المؤمنين #: ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لَا يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلَا يُجِيبُ دَاعِياً ...
  ثم إلى أينَ ينتقلُ؟ وإلى أين يذهبُ؟ إنه ينتقلُ ويذهبُ إلى تلكَ الحفرةِ الموحشةِ، إلى تلك الحفرةِ المظلمةِ، إلى تلك الحفرةِ المفزعةِ، إلى قبرِهِ الذي يناديهِ كلَّ يومٍ ثلاثَ مراتٍ فيقولُ: (أما عَلِمْتَ أني بيتُ الوحشةِ؟ أما علمتَ أني بيتُ الظلمةِ؟ أما علمتَ أني بيتُ الدُّودِ، فما أعْدَدْتَ لي؟) ..
  فماذا أعددنا أيها الأخوةُ للموتِ وسكراتِهِ التي كان رسول الله ÷ يقول: «اللهمَّ هَوِّنْ على محمدٍ سكراتِ الموتِ» ..
  وماذا أعْدَدْنا لهذهِ الحفرةِ مِنْ أعمالٍ؟
  أيها الأخوةُ إننا مهما غالَطْنا أنفسَنا، ومهما اغتررنا بالدنيا وشهواتِها، مهما تكبَّرْنا على اللهِ وجعلنا لأنفسِنا من أعذارٍ فإنها لا تنفعُنا، ولا تُبعدُ الموتَ عنَّا لحظةً واحدةً، إننا نخادعُ أنفسَنا، ونُضَيِّعُ أعمارَنا فيمالا ينفعُنا، بل نُضَيِّعُ أعمارَنا فيما يضُرُّنا، إننا نُضَيِّعُ أعمارَنا في جمعِ الدنيا والمباهاةِ بها والمكاثرةِ، والتفاخُرِ بها على بعضنا البعض، إننا نُضَيِّعُ أعمارَنا في التحاسدِ فيما بيننا، والتباغضِ والحقدِ والكراهيةِ، إننا نُضَيِّعُ أعمارَنا في الغيبةِ والنميمةِ، وهتكِ أعراضِ المسلمينِ، وأكلِ لحومِهم، إننا نُضَيِّعُ أعمارَنا في التشاجُرِ والتناحُرِ فيما بيننا، إننا نُضَيِّعُ أعمارَنا في الكذبِ والمكرِ والخداعِ لبعضِنا البعض.
  فهل سينفعُنا ذلكَ عندَ الموتِ أم سيضرُّنا؟ وهلْ سيخلِّصُنا ذلكَ من ظلمةِ القبرِ وهولِهِ أم سيهلكُنا؟