الخطبة الأولى
  فتقولُ: أي بنيَّ، ألم يكنْ بطني لك وعاءً، فيقولُ: بلى، فتقولُ: ألم يكن حِجْرِي لك وعاءً، فيقولُ: بلى.
  هي هنا تحاولُ أنْ تستعطفَهُ وتذكرَهُ بإحسانِها، وما عانتْهُ من أجلِهِ، وتذكِّرُهُ بكلِّ حسنةٍ ومعروفٍ قَدَّمَتْهُ لهُ لَعَلَّهُ أن يلينَ لها فيهبَها ولو حسنةً.
  فتمضي في استعطافِهِ قائلةً: أيْ بنيَّ، ألم يكن ثديي لكَ سقا؟ فيقولُ: بلى، فتقولُ: ألم أكنْ أسهرُ لأجلِ أن تنامَ، وأجوعَ لتشبعَ، وغير ذلك من الخدماتِ التي قدمتها الأمُّ لوليدِها.
  فيقولُ أخيرًا: بلى، ما تريدينَ، لا وقتَ للتطويلِ، اخْتَصِرِي أوْجِزِي فالمقامُ لا يحتملُ الإطنابَ. فتقولُ: أريدُ حسنةً واحدةً، أو تحمل ُعني سيئةً، فيقولُ: إليكِ عني، أنا مشغولٌ بنفسي، كلٌّ مشغول بنفسه.
  قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.
  هذا الموقفُ بينَ أقربِ الناسِ في الدنيا، بين الابنِ البارِّ والأمِّ الحنونة التي قدمتْ حياتَها ثمنًا لولدِها، والتي لو وجدتِ ابنَها في الدنيا بينَ النارِ لقَذَفَتْ بنفسِها بينَ لهيبِها من أجلِ أن تنقذَهُ. هذا في الدنيا، وأما اليومَ فقد انْتُزِعَتِ الرحمةُ وانقطعتِ الرحامةُ {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}
  ولو وجدتِ المرأةُ طفلَها في ذلكَ اليومِ لألقتْ بهِ مِنْ هولِ ما ترى {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
  العاصي المقصرُ في ذلكَ اليومِ والمفلسُ مِنْ كلِّ خيرٍ لا ينتظرُ معونةً أو مددًا مِن أحدٍ، لا يوجدُ مَن تلوذُ بهِ من قريبٍ أو بعيدٍ، ولا ملكٍ مقربٍ، ولا نبيٍّ مرسلٍ.
  {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} حتى لو أرادَ أحدٌ أن ينفعَ أحداً فلن يقدرَ، لن يتمكنَ في ذلك اليومِ إلا بإذنِ اللهِ، إنه يومُ