الخطبة الثانية
  لقد ظهرتْ لهم حقائقُ الأشياءِ وقيمةُ العباداتِ، لم تعدِ الدنيا تساوي عندَهم كثيرًا ولا قليلًا، ولو كانوا يملكونَ الدنيا بِأَسْرِهَا لَبَاعوها بأجرِ ركعتينِ، بل وبأقلَّ من ذلك.
  ولو أنَّ اللهَ أذِنَ لأهلِ القبورِ في العودةِ للدنيا ليومٍ واحدٍ تُرى ماذا سيفعلُ هذا الميتُ؟ وإلى أين سيتجهُ؟
  هل يذهبُ لزيارةِ أهلِهِ؟ أم ليتفقدَ أموالَهُ وأملاكَهُ؟ أم يسمر مع رفقائِهِ وأحبابِهِ؟
  لا هذا ولا ذاك، بل يذهبُ إلى أقربِ مسجدٍ ليصلِّي ولو ركعتينِ، لقد كُشفَ الغطاءُ، وظهرتِ الحقائقُ لمن كان أعمى {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وينادي {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} لم يعدْ يهمُّهُ مالٌ ولا أهلٌ ولا شيءٌ، أصبح يفكرُ في إنقاذِ نفسِهِ، ولو كان ذلك على حسابِ هلاكِ أهلِ الأرضِ كلِّهم جميعًا لفَعَلَ، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ}.
  وقال النَّبيُّ ÷: «ما مِنْ يومٍ إلا وينادي منادٍ: يا أهلَ القبورِ، مَنْ تغبطون اليومَ؟ قالوا: نغبطُ أهلَ المساجدِ؛ لأنَّهم يصومونَ ولا نصومُ، ويصلُّونَ ولا نصلِّي، ويذكرون اللّهَ ولا نذكُرُه».
  عبد الله:
  اعلم بأنك في حاجةٍ لصاحبِ صدقٍ يكونُ معك عندَ كلِّ مُلِمَةٍ ومهمةٍ مخلصًا ومعينًا، والمعلومُ أنَّ كلَّ صاحبٍ في الدنيا أعظمُ ما يقدرُ أن يقدمه لك أنْ يوصِلَكَ إلى حفرتِك، وأما الذي يقدرُ على البقاء معك إلى النهايةِ فإنه صاحبٌ مِن نوعٍ خاصٍّ، وذلك هو العملُ الصالحُ، هو الصديقُ الصادقُ الذي يستحقُّ أن تتعبَ لأجلِ اقتنائِهِ والحصولِ عليه مهما كلَّفَ مِن ثمنٍ، وكلُّ شيءٍ في جنبِهِ