سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 210 - الجزء 2

  ما أشَدَّ الحالَ يومَ يقولُ الجبارُ للزبانيةِ: ذروا عبدي الذي كان يقابلُ نعيمي بالكفران، ويجاهرني بالعصيانِ، دعوه ليبرزَ وحدَه، ليدافعَ عن نفسِهِ، ذرني ومن خلقتُ وحيدًا وجعلتُ لَهُ مالًا ممدودًا وبنينَ شُهودًا ومَهَّدْتُ لَهُ تمهيدًا، فيا تُرى كيف يكونُ مصيرُه، ومن يطيقُ الإنكارَ والحكمُ الجبارُ، ومن يطيقُ الكلامَ والنارُ قد شُدَّتْ بسبعينَ آلفَ زمامٍ، تكادُ أن تلتهمَ المحشرَ بما فيهِ مِن شدةِ الغيظِ {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} وكيف يقدرُ على الهربِ، ومِن خلفِهِ الوحوشُ محشورةٌ والطيرُ منشورةٌ والنارُ مسعورة، والجنُّ مذعورةٌ، صفوف خلفها صفوفٌ، قد ملئوا الأقطارَ، وسدوا منافذَ الأبصارِ، إلى أين المفر؟ إلى أين المهرب؟ {كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ١٢}.

  كيف بِعَبْدٍ ضَعُفَتْ قوتُهُ، وذهبتْ أَخِلَّتُهٌ، ولم يبقَ معَهُ ناصرٌ ولا معينٌ، ذهبَ مالُهُ وتَرَكَهُ أهلُه وإخوانُهُ، بين يدي زبانيةٍ لا تُرحم، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}

  من يقوى على الخطابِ وردِّ الجوابِ؟

  وكيف بحالِهِ وجوابِ سؤالِهِ وحجةِ مقالِهِ، بين يدي ذي الجلالِ والإكرامِ، إنَّه موقفٌ تَزِلُّ فيهِ الأقدامُ، كيف لا وقد تقطعت له قلوبُ المقربينَ من الملائكةِ والأنبياءِ والصديقين هيبةً وإجلالاً، وله عنت الوجوهُ وخشعتِ الأصواتُ، فلا تسمعُ إلا همسًا، كأنَّ على رؤوسِهم الطيرَ، جاثين على الركبِ وقد أذهلهم هولُ الخَطْبِ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}.

  إذا كان هذا حالَ أفضلِ الخلقِ ما حالَ أشقى الخلقِ فكيف بالعاصي والمقصرِ والمصرِّ على الذنوبِ، وما حالُ مَنْ قيلَ لَهُ يومَ العرضِ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ٢٦}، فلا يردونَ جوابًا، ولا يتفوهونَ بكلمةٍ لقد انقطعت حُجَجُهُم.