سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 50 - الجزء 1

  فإن الإحاطةَ بكلِّ تلك الأمورِ مِن شأنِها أن تورثَ في النفسِ إدراكَ عظمةِ القرآنِ واستشعار قيمتِه، وذلك مما يزرعُ في القلوبِ الإجلالَ والتقديرَ له، فنحن قد نُعَلّمُ أبناءَنا القرآنَ، وهذا شيءٌ نُحمدُ عليه، ولكن ما الذي يزرعُه الأبُ في قلبِ ابنِه عن القرآنِ؟ وما الذي يتعلمُه الطالبُ من شيخِه عن عظمةِ القرآنِ؟

  نحن نُعَلّمُه بأن يُجيدَ تلاوتَه، وأن يُحسنَ نطقَه، ونُفَهّمه بأن لا يلحنَ فيه، ولا يغلط، نُعلّمه أحكامَ التجويدِ، والتلاوةَ لا غير، وإذا أتينا إلى تعريفِه، وترغيبِه في القرآنِ ذكرنَا له فضلَ تلاوتِه، وأجرَ تعليمِه، ولكننا نسينا شيئاً أهمَّ وأعظمَ؛ نسينا أن نزرعَ في قلوبِ هؤلاءِ الناسِ معنى القرآنِ، مكانةَ القرآنِ، جلالَ القرآنِ، عظمةَ القرآنِ، وأنه كلامُ ربِّ الأرضِ والسماءِ، وأنه أعظمُ من كونِه حروفاً وكلماتٍ، وأكبرُ من كونِه سوراً وآياتٍ، وأجلّ من كونه قصصاً وأحكاماً.

  إنه نورٌ من نورٍ، ونورٌ على نورٍ، وشفاءٌ لما في الصدورِ.

  وأنَّ وراءَ تلك الحروفِ والكلماتِ عظمةً، وقوةً جبارةً تُفَجِّرُ الأنهارَ، وتُزلزلَ الجبالَ، ويُسْتَسْقى بها غيثُ الغمامِ، وأنَّ بين كلماتِه أسراراً وأسراراً، واسمَ اللهِ الأعظمِ الذي تقومُ به السماواتُ والأرضُ.

  وأن عرشَ بلقيسَ الجاثمَ في أرضِ سبأٍ قد صارَ في طرفةِ عين ماثلاً بينَ يدي سليمانَ # في أرضِ فلسطين بقوةِ ذلك الاسمِ.

  وليكن في حسبانِ القارئِ أن يعلمَ ويُشعرَ نفسَه بأنَّ الذي بينَ يديِه هو رسالةٌ مِن مالكِ السماواتِ والأرضِ لكلِّ عبدٍ خاصة، وأنه المعنيُّ بما فيها، والمخاطَبُ بما يسمعُ فيها، لينموَ في قرارةِ نفسِه بأن الله يكلِّمُه إذا قرأَ القرآنَ، وعلى هذا النهجِ بنى المصلحون أنفسَهم وربوا أبناءَهم فمما يُروى أن رجلاً كان كلما دخلَ على ولدِه سأَله: ما تفعل يا محمدُ؟ فيردُّ عليه: أقرأُ القرآنَ، وتكررَ السؤالُ، وتكررَ الجوابُ مدةَ ستِ سنين، حتى إذا وعى الابنُ وتفتحَ ذهنُه سأَله أباه: عن الحكمةِ من تكرارِ سؤالِه؟