سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 51 - الجزء 1

  فردَّ عليهِ الأبُ قائلاً: يا محمدُ اقرأ القرآنَ كأنه عليك أُنزل.

  الله أكبرُ ما أعظمَها مِن عبارةٍ، وما أشدَّ وقعَها في نفوسِ العقلاءِ لو استشعروا معناها؛ فكيف بأثرِها في عقولٍ غضةٍ طريةٍ وفطرةٍ ما زالت في بدءِ النضوجِ؟

  عبادَ الله: لو أننا عَظَّمْنا هذا القرآنَ في قلوبِ الأبناءِ وأعلينا شأنَه وغرسْنا في القلوبِ عظمتَه، وأنه الصادقُ الذي لا يكذبُ والقولُ الفصلُ - لَمَا رأينا مَن يترددُ في صدقِ وعدِ اللهِ ووعيدِه، ولا سمعنا بمَن يُشكِّكُ في مصدرِ رزقِه أو يتهاونُ بتهديدِه. ولم نَرَ أبناءَنا في المدارسِ يلقون بكتبِهم في الأرضِ ويمزقونها وهي مليئةٌ بآياتِ القرآنِ ويدوسونها تحتَ أقدامِهم ويُلقون بها في صناديقِ القمامةِ، كلُّ ذلك سببُه الجهلُ بالقرآنِ وبعظمةِ كلامِ اللهِ.

  إن كتابَ اللهِ: هو مِن أعظمِ الشعائرِ والحرماتِ التي أمرَ اللهُ بتعظيمِها، وتقديسِها وتنزيهِها، وذلك في قلوبِنا، وفي قرارةِ أنفسِنا قبلَ أن تكونَ مجردَ أفعالٍ، وأقوالٍ خاليةٍ.

  فالذي يرفعُ القرآنَ مِن الأرضِ ليس إلا ملتزماً ومُعَظّماً لكلامِ اللهِ بفعلِه، والمطلوبُ كيف يكونُ ذلك التعظيمُ بدافعٍ من النفسِ وزاجرٍ من القلبِ، وذلك لا يتمُّ إلا بعد رسوخِ عظمةِ كتابِ اللهِ في النفسِ، وغرسِ حبِه في القلوبِ.

  إن الطفلَ الذي يمزقُ كتابَ اللهِ جاهلٌ لقدرِه، ولو أنه عرفَ قدرَ القرآنِ كما غرسَ في قلبِه قدرَ النقودِ لكان أشدَّ حفاظاً عليه منها، ولنا أن نقارنَ بين ما وصلنا إليه، وما كان عليه من سَبَقَنا من تعظيمٍ لحرماتِ الله، وتقديسٍ لشعائرِه.

  فمما يُروى بأن أحدَ الزهادِ المعروفين المشهورين بالعبادةِ والزهدِ كان أولَ حياته مسرفاً في الخطايا والذنوب، ولكنه كان يُحِبُّ اللهَ، ويعظمُ كلَّ ما له صلةٌ بالله، نزل ذاتَ يوم إلى السوقِ فوجدَ ورقةً ملقاةً على الأرضِ في مدخلِ أحدِ الأسواقِ مكتوباً عليها اسمُ اللهِ تبارك وتعالى، والناسُ يطأونها بأقدامِهم، عند دخولِهم وخروجِهم من السوقِ، وهم لا يشعرون.