الخطبة الثانية
  يخادِعُهم ويداهنُهم بإيمانِه، ويتظاهرُ أمامَهم بالتقوى والصلاحِ.
  إيُّ حسرةٍ وأيُّ خسارةٍ وأيُّ ندامةٍ يتجرعُها حينَ يرى إخوتَهُ في الدنيا، ورفقاءَهُ في المحيا، قد عَلَتْ وجوهَهم ابتسامةُ الفوزِ والسرورِ، وتهلَّلَتْ وجوهُهم بالضياءِ والنورِ والملائكةُ تزفُّهم إلى الجنة كما تُزفُّ العروسُ، والحورُ العينُ والولدانُ المخلدونَ يستقبلونَهم على أبوابِ الجنةِ وكلُّ حوراءَ تنتظرُ زوجَها {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
  وهو في الظلماتِ تائهٌ يناديهم: انظرونا نقتبسْ مِن نورِكم، فيردونَ عليه هازئينَ: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً}، ارجعوا إلى الدنيا فابحثوا لكم عن نورٍ، عندها تُضْربُ الأسوارُ وحيلَ بينهم وبينَ ما يشتهون {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ألم يكنْ يجمعُنا وطنٌ واحدٌ، ومجلسٌ واحدٌ، ومأكلٌ واحدٌ، وطريقٌ واحدٌ، {قالوا بلى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
  وعندها ييأسُ العاصي من إجابتِهم فيتلفتُ حولَه يبحثُ عن أملٍ ينجيه أو أخٍ يحميه. يجيلُ نظرَه في أرضِ المحشرِ هنا وهناك، وكلما مدَّ بصرَه عادَ إليه خاسئًا وهو حسيرٌ، تلك إذًا كرةٌ خاسرةٌ. إنه لا يرى له أملًا في نجاةٍ فالرسولُ قد تبرأ منه وأخوتُهُ وأصحابُهُ قد ذهبوا عنه.
  لم يبقَ معه في المحشرِ إلا رفقاءُ السوءِ، ومَرَدةُ الشياطينِ، وعبدةُ الْجِبْتِ والطاغوتِ. يلعنُ بعضُهم بعضًا، ويُلقي بعضُهم تبعتَه على بعضٍ، وكلٌّ يَدَّعِي بأن الآخرَ هو سببُ هلاكِه وغوايتِه، وهنا يتراءى لهم إبليسُ اللعينُ كالعرجونِ القديمِ قد أنهكَهُ حصادُ السنينَ، وبدتْ له عينُ اليقينِ، وأضحتِ الجبينُ أنه من المخلدين في نارِ الجحيمِ، فلم يكففْ ذلك من سخريتِه واستهزائِه، بل أرادَ أن يصبَّ جامَ غضبِه على أوليائِه ويشفيَ غليلَ فؤادِه منهم لمّا اتهموه بأنه سببُ