سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 217 - الجزء 2

  عباد الله:

  كنا وأنتم معاً في مثلِ هذا اليومِ في رحلةٍ تصوريةٍ، وقفنا فيها مع يومِ من أيامِ اللهِ في آخرتِهِ، نتأملْ يومَ الحسابِ وميدانَ الحشرِ والنشورِ، بما حواهُ على العاصين مِن آلامٍ ومشاقَّ تُنسَى لها كلُّ لذةٍ وهناءٍ، من آلامِ الجوعِ والظمأ، وحرِّ الشمسِ وشدةِ الزحامِ، وتعبِ الوقوفِ على الأقدامِ لآلافِ السنينَ بينَ الفضائحِ، ونشرِ المطويِّ مِن القبائحِ، ومع ما يحملُ ذلكَ اليومُ في طياتِهِ مِن آلامٍ ومشاقَّ فهل يكفي العبدَ المجرم شدةُ ذلك اليومِ وألمُ وحشتِهِ ليكونَ جزاءً لَهُ على ما اقترفَ مِن ذنبِهِ وعلى ما فرطَ فيهِ مِن أمرِ ربِّهِ؟ وينجوَ مِن حرِّ الجحيمِ وعذابِها الأليمِ.

  لا واللهِ فإنَّ ما علمتُموه وما لم تعلموه مِن ويلاتِ يومِ الحشرِ ليسَ إلا يوماً واحداً من أيامِ المعاناةِ الأخرويةِ التي لا نهايةَ لها، فليسَ موقفُ الحشرِ والنشورِ إلا بدايةً لذلكَ المشوارِ الطويلِ البعيدِ الذي لا نهايةَ له، ليست الخمسينَ ألفَ سنةٍ التي يقضيها العبدُ في محكمةِ مالكِ السماواتِ والأرضِ إلا جلسةَ محاكمةٍ واحدةٍ من جلساتِ محكمةِ مالكِ يومِ الدينِ، وحق لجلسةٍ مقدارُها خمسينَ ألفَ سنةٍ، كلُّ موقفٍ فيها بألفِ سنةٍ، أنْ لا يكونَ الحكمُ فيها إلا نهايةً أبديةً وخلودًا سرمديًّا، فما أن ترفعُ الجلسةُ وتصدرُ الأحكامُ القضائيةُ من المحكمةِ الربانيةِ، وتسلمُ الكتبُ بأيدي أصحابِها حتى تفزعَ ملائكةُ الرحمةِ والزبانيةُ لتنفيذِ الأحكامِ، وإيصالِ كلِّ امرئٍ إلى مقرِّهِ ومثواهُ، ليغلقَ ملفُ الجدلِ والحوارِ وتخرجُ الأحكامُ، فلا نقضَ للأحكامِ، ولا محكمةَ استئنافٍ، ولا وساطاتٍ، ولا وجاهاتٍ ولا مجاملاتٍ ولا رشاوى، وتنتهي المرافعاتُ، وتحجرُ الأحكامُ {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً}

  فمن أخذَ كتابَهُ بشمالِه تلقفتْهُ ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ وزبانيةٌ قساةٌ أفظاظٌ {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ليسوقوهم إلى دركاتِ النيرانِ، بينَ أطباقِ السعيرِ، وليتَهم على أقدامِهم يُساقونَ وبأيديهم يُقادونَ، ولكنهم