الخطبة الأولى
  يُؤخذوا بالنواصي والأقدامِ، ويُسحبونَ على وجوهِهِم التي أبَوا أن يُطأطِئوها بينَ يدي اللهِ، وعلى أنوفٍ طالما شمَخُوا بها مستكبرينَ، كانوا يترفَّعونَ أن يدسوها بين الترابِ ويعفروها في الصلاةِ سُجداً وبكياً.
  الذين يحشرونَ على وجوهِهم إلى جهنمَ أولئك شَرٌّ مكانًا وأضلُّ سبيلًا، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ٢٥ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ٢٦ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}
  ولكن لا يُسمعُ لقولِهِ، ولا يُرحمُ تضرُّعُهُ، يضيعُ صوتُهُ، وتتلاشى كلماتُهُ بينَ أصواتِ الزبانيةِ وجلجلةِ المقامعِ وصلِّلِ السلاسِل، حينَ يقولُ الجبارُ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} فيا لَهُ من مأخوذٍ لا تنجيهِ أهلُهُ ولا عشيرتُه، غلو رأسَه بين ذراعيهِ، وكبُّوا وجهَهُ بينَ قدميهِ، وشَدُّوا يديَهِ خلفَ عنقِهِ {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}، وما أدراكَ يا عبدَ اللهِ ما هذه السلسلةُ؟ إنها من النارِ مسبوكةٌ، ومن الحميمِ مصهورةٌ، طولها سبعونَ ذراعًا، و لو أنَّ حلقةً مِن حلقِها وضعتْ على أعظمِ جبلٍ في الدنيا لغارتْ بِهِ إلى الأرضُ السفلى، فكيفَ بابنِ آدمَ الضعيفِ الذليلِ الذي لا يطيقُ حرَّ الشمسِ، ولا يحتملُ وخزَ الشوكِ والإبرِ، كيف يكونُ حالُهُ معها وهي سبعونَ ذراعًا، كيف بهِ يومَ تُدْخلُ هذه الحلقةُ مِن فمِهِ وتخرجُ من دبرِهِ، ثم يغلُّ إلى قفاه من وراءِ ظهرِه ويُلقى في جهنمَ ليذوقَ وبالَ أمرِهِ، ويتجرعَ آلامَ عصيانِهِ، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فهذا هوَ المقرُّ والمستودعُ، هذا المستقرُّ والحبسُ الدائمُ.
  إنها النارُ وما أدراكَ ما النارُ؟ طالما تلفظتْ بها الأفواهُ، وطرقتِ المسامعَ دونَ أن نلقي لها بالًا، أو نعدَّ لها وقايةً، قد لا تخلو سورةٌ من سورِ القرآنِ الكريمِ من ذكرِها إما تصريحًا أو تلميحًا، نَمُرُّ عليها بالغدوِّ والآصالِ صمًّا بُكمًا عميًا لا نفقهُ حقيقَتَها، ولا نُشعِرُ أنفسَنا بخطرِها، حالنا {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {لَقَدْ