الخطبة الأولى
  شاءتْ إرادةُ اللهِ أن يصطفيَ في الأرضِ مخلوقًا يكونَ سيدًا فيها وخليفتَهُ عليها، فعرضَ ذلك على الملائكةِ فقالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
  فانزعجتْ لذلك الملائكةُ وعَظُمَ الأمرُ في أنفسِهم، وذلك ليس اعتراضًا منهم على حكمِ اللهِ، ولا مخالفةً لإرادتِهِ، ولكن خوفًا منهم أنْ يكونَ ذلكَ المستخلَفُ مصدرَ شرٍّ وفسادٍ، وهذا ما لا يريدُهُ اللهُ.
  فأفْصَحُوا عما في أنفسِهم فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فرَدَّ تعالى مقالتَهم وطمأنَهُم بقولِهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
  فمِنْ قولِ الملائكةِ يتضحُ لنا أنَّ (الظالمَ) غيرُ أهلٍ لأنْ يكونَ خليفةً على أحدٍ وأنَّ الذي لا يدينُ للهِ بالطاعةِ والعبوديةِ ولا يعظمُهُ ولا يقدسُهُ غيرُ جديرٍ بالسيادةِ في الأرضِ.
  فأرادَ اللهُ تعالى أن يُبينَ لملائكتِهِ أنَّ هذا القادمَ والمصطفى لخلافةِ الأرضِ على خلافِ ما ذهبوا إليهِ، وأنه جديرٌ بهذه السيادةِ، وأهلٌ لهذهِ الزعامةِ، وأنَّ لديهِ مِن العلمِ والمعرفةِ ما هو كفيلٌ بأنْ يحققَ إرادةَ اللهِ في أرضِهِ، وأنْ يقيمَ العدلَ ويبسطَ الأمنَ في ربوعِ هذه الدنيا، وينشرَ رحمةَ اللهِ في أرجاءِ الأرضِ.
  فعلَّمَ اللهُ تعالى آدمَ أسماءَ المسمياتِ، وأطلعَهُ على ما يحتاجُهُ من تلك المعارفِ والعلومِ التي تؤهلُهُ لذلك.
  ثم عَرَضَهم على الملائكةِ فقالَ: {فقال أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
  فعجزوا عن الجوابِ، وأفحموا عن الردِّ، ونكسوا رؤوسَهُم قائلينَ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
  {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.