الخطبة الأولى
  عباد الله:
  ابنُ آدمَ خُلقَ مِن أصلَين ومُكَوَّنٌ من شيئينِ:
  الأولُ طينيٌّ يتمثلُ في الجسدِ. والثاني روحانيٌّ نورانيٌّ يتمثلُ في الروحِ.
  فالملائكةُ إنما قالوا في حقِّ آدمَ ذلك نظرًا منهم - واللهُ أعلمُ - لما يتمتعُ بهِ مِن خصائصَ بهيميةٍ وشهواتٍ حيوانيةٍ مِن طَبْعِها الشرُّ والبطشُ والعدوانُ، ويميلُ للعبثِ والفوضى والهمجيةِ.
  فأبانَ تعالى أنَّ في هذا الجسدِ مضغةٌ إنْ صَلُحَتْ صَلُحَ الجسدُ كُلُّهُ، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، وأنَّ وراءَ هذا الجسدِ الطينيِّ والشهواتِ الحيوانيةِ قوةً عقليةً لها من العلمِ والمعرفةِ، والتحسينِ والتقبيحِ ما يجعلُها تترفعُ عن كلِّ سوءٍ ورذيلةٍ.
  فالعقلُ مع العلمِ الدينيِّ الخالصِ لوجهِ اللهِ يولدُ في نفسِ المرءِ شعورًا بالمسئوليةِ، ويجعلُ من صاحبِهِ قياديًّا مِن نوعٍ نادرٍ جديرٍ بالخلافةِ في الأرضِ، فالعلمُ يحققُ ما يعجزُ عن تحقيقِهِ المالُ والسعةُ في الرزقِ والجاهِ، وبهذا يحدثُنا القرآنُ في قصةِ طالوتَ حين بعثَهُ اللهُ ملكًا على بني إسرائيلَ فاعترضوا حكمَ اللهِ، فادَّعوا أنهم أحقُّ بالملكِ منهُ وأولى بالخلافةِ والزعامةِ لِكونِهم أكثرَ منهُ مالًا.
  فبينَ لهم اللهُ أنَّ المالَ ليسَ كلَّ شيءٍ، وأنَّ العلمَ هو المؤهلُ الحقيقيُّ الذي يعولُ عليه في الخلافةِ والسيادةِ، قالَ تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
  وفي قصةِ يوسفَ # ما يؤيدُ هذا الأمرَ.
  فإنَّ يوسفَ # لما طلبَ مِن عزيزِ مصرَ أنْ يجعلَ لهُ الولايةَ المطلقةَ على خزائنِ الحبوبِ والزعامةِ عليها أبرزَ الشهادةَ التي تؤهِّلُهُ لذلك المنصبِ والتي