الخطبة الثانية
  سلطانًا لهُ يُخيفُهم بهِ، ليس في قومِهِ مَن يعتمدُ عليهِ ويركنُ في الشدةِ إليهِ سوى عَمِّهِ أبي طالبٍ وولدِهِ عليٍّ #، فهل يا تُرى كيف يكونُ موقفُهم مع رجلٍ فقيرٍ ويتيمٍ يعيشُ في معزلٍ عن الناسِ، وهم الذين يسخرونَ من الفقراءِ وينتهبونَ أموالَ اليتامى، هل سيُجيبونَهُ إلى ما دعاهم؟ وهل سيتخلونَ عن كبريائِهم ويتواضعونَ للحقِّ مُذعنينَ؟ هل سيرضونَ بمخالطةِ العبيدِ والضعفاءِ، ومجالسةِ اليتامى والفقراءِ، هل بقدرتِهم أن يتخلوا عن كلِّ شهوةٍ وملذةٍ وقد صارتْ كلَّ شيءٍ بالنسبةِ لهم، وعليها شَبُّوا وترعرعوا ويتخلونَ عن معتقداتِهم وأصنامِهم؟ هل يستطيعونَ النزولَ عن كراسي الشهرةِ والمجدِ وخلعِ ثيابِ الأبهةِ الذهبيةِ والحريرِ، هل يستطيعونَ السيرَ تحت لواءِ محمدٍ تابعينَ لا متبوعين؟ هل سيرضون أن يعفِّروا وجوهَ الكبرِ بالترابِ، ويدسُّوا آنافَهم بينَ الرمالِ ساجدين لله؟ إنَّ هذا موقفٌ شاقٌّ مضنٍ وعقبةٌ كؤودٌ.
  لقد أُلقِيَتْ على كاهلِ النبيِّ مسئوليةٌ ليستْ بالسهلةِ الهينةِ، إنه موقفٌ مكلف، نزلَ من غارِ حراءٍ بعد أن جاءَه الوحيُ مِن السماءِ واتَّجَهَ صوبَ مكةَ فرأى النواديَ تضجُّ بالضحكاتِ المجلجلةِ، والشوارعُ تضيقُ بالمترنحين أو التاعبين من آثار السكارِ، البيوتُ تفوحُ بالروائحِ النتنةِ العفنةِ من الأرجاسِ والأدناسِ، بيوتُ الدعارةِ تضيقُ بالزانياتِ العاهراتِ، والراقصاتِ العارياتِ، ماذا يعملُ؟ إنه مأمورٌ بإبلاغِ رسالةٍ فيها طمسُ الموبقاتِ، ومحوُ الفواحشِ والمنكراتِ؟
  بمَنْ يبدأُ؟ ومن أينَ؟ وكيفَ؟ ومتى؟ أيبدأُ بالنوادي، بالسكارى، بالزناةِ، بقطاعِ الطرقِ، بالساداتِ والأمراءِ أم بالعبيدِ والفقراءِ؟
  آهٍ مِن موقفٍ ما أصعبَهُ ومقامٍ ما أتعبَهُ، إنها الرسالةُ العظمى التي حملَها ذلك الرجلُ العظيمُ الذي جَهِلَ حقَّهُ الأكثرونَ، وأنكرَ فضلَهُ المبطلونَ، لم يرعوا له ولا