سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 282 - الجزء 2

  يعرضُ للنساء ذواتِ الحملِ، حتى جاءَها المخاضُ يوم الاثنين فجلستْ في بيتِها وحدَها لا يعلمُ بها أحدٌ.

  قالت آمنةُ: فسمعتْ وجبةً عظيمةً، وأمراً شديدًا فهالني، فرأيتُ كأنَّ جناحَ طيرٍ أبيضَ قد مسحَ على فؤادي فذهبَ عني الرعبُ وكلُّ وجعٍ.

  ثم رأيتُ نسوةً كالنخلِ طولًا، كأنهنَّ مِن بناتِ عبدِ منافٍ يُحدقنَ بي فبينما أنا أعجبُ وأقولُ: واغوثاه، من أينَ علمنَ بي هؤلاء! فاشتدَّ بي الأمرُ وأخذني المخاضُ فولدتُ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فلما خرجَ مِن بطني دُرْتُ فنظرتُ فإذا أنا بِهِ ساجد قد رفعَ إصبعَيهِ إلى السماءِ كالمتضرعِ المبتهلِ، وفي رواية: فرأيتُ أنه خرجَ مني نورًا أضاءتْ منهُ قصورُ الشامِ.

  فهذا شأنُ آمنةَ وما رأتْ، وأما عبدُ المطلبِ فقد روى أهلُ السيرِ أنه كانَ في تلكَ الليلةِ في جوفِ الكعبةِ يرومُ منها شيئًا إذ سمعَ تكبيرًا عالياً يقول: اللهُ أكبرُ، ربُّ محمدٍ المصطفى وإبراهيمَ المجتبى، ألا إنَّ ابنَ آمنةَ الغراءِ قد وُلِدَ، وقد انكشفتْ عَنَّا سحائبُ الغمَّةِ إلى الرحمةِ، ثم اضطربت الأصنامُ، وخَرَّتْ على وجوهِها.

  قال عبد المطلب: فدهشتُ، ثم خرجتُ من الكعبةِ في ليلةٍ مقمرةٍ، فإذا أنا بذئبٍ قد وقفَ بأعلى مكةَ وهو ينادي بصوتٍ له رفيعٍ عربيٍّ فصيحٍ: يا آلَ غالبٍ، ألا فاسمعوا: قد جاءَكم النورُ الثاقبُ الذي به تستبهجُ الدنيا فاتبعوهُ قبلَ أن تدنوا فتخذلوا، وذهبَ الذئبُ، فإذا بصوتٍ رفيعٍ من الجبلِ - جبلِ أبي قبيسٍ - يقولُ: يا آلَ غالبٍ، ألا فاسمعوا لهذا المولودِ فإنه خيرةُ المعبودِ، فطوبى لِمَن آزرَهُ وتبعَهُ ونصرَهُ.

  فأسرعَ عبدُ المطلبِ نحوَ منزلِ آمنةَ فإذا هو بطيورٍ ساقطةٍ على حيطانِ الدارِ، وسحابةٍ بيضاءَ قد أظلتْ الدارَ بأجمعِها، فلما دنا من البابِ لم يطقِ الدخولَ من لمعانِ النورِ، فطرقَ البابَ ففتحتْ لهُ آمنةُ وأخبرتْهُ بأنها قد ولدتْ غلامًا، فقالَ لها: وأينَ وضعتيهِ ولستُ أرى عليك أثرَ النفاسِ.