سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 283 - الجزء 2

  قالتْ: إنَّ هذه الطيورَ التي ترى قد أظلتِ الدارَ لتنازعَنيه منذُ وضعتُهُ، ولم تكنْ تلكَ الطيورُ سوى ملائكةٍ جاءتْ لزيارةِ هذا المولودِ المباركِ، فسألَها عبدُ المطلبِ: أينَ الغلامُ؟ قالت: هو في ذلك المخدعِ فشأنك وهو، فوثبَ عبدُ المطلبِ ليدخلَ فصاحَ بهِ صائحٌ بصوتٍ هائلٍ: ارجعْ، لا سبيلَ لكَ ولا لأحدٍ من الآدميينَ إلى هذا المولودِ حتى تنقضي عنهُ زيارةُ الملائكةِ.

  نعم، أيُّها المؤمنونَ لقدْ كانَ لمولدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ثقلُهُ، وله وزنُهُ على صفحاتِ التاريخِ بما رافقَ مولدَهُ من أحداثٍ وتغيراتٍ قلبتِ الدنيا رأسًا على عقبٍ، وأذهلتْ أهلَ ذلك الزمانِ، إنسَهُم والجانَّ، بل حتى الشياطينَ لم تكنْ لتخطئَهم تلكَ الصدمةُ المدويةُ، فقد رُجِمَتْ بالشهبِ، ومُنِعَتْ مِن السماءِ.

  وانقضَّتْ الكواكبُ في الهواءِ تزينُ الكونَ بلمعانِها وبريقِها، وترعبُ الجبابرةَ والمستكبرين.

  فلما رأتْ قريشٌ ذلك أنكرَتْهُ وقالوا: ما هذا إلا لقيامِ الساعةِ، وأصابتِ الناسَ زلزلةٌ عظيمةٌ عمَّتْ جميعَ الدنيا حتى تهدمتْ الكنائسُ والبِيَعُ، وزالَ كلُّ شيءٍ يُعْبَدُ من دونِ اللهِ ø عن موضعِهِ، وعَمِيَتْ على السحرةِ والكهانِ أمورُهُم، وحُبِسَتِ الشياطينُ عنهم، وطلعتْ نجومٌ لم تُرَ قبلَ ذلك، فأنكرَتْها كهانُ اليهودِ، وزُلْزِلَ إيوانُ كسرى، وسقطتْ منه ثلاثةَ عشرَ شُرْفَةٍ، وخمدتْ نارُ فارسٍ ولم تكن خمدتْ قبلَ ذلك بألفِ عامٍ.

  عبادَ الله:

  لقد جاءَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إلى هذه الدنيا بخيرِ الدنيا والآخرةِ.

  لم يكن وجودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كغيرِهِ من البشرِ يعولُ نفسَهُ، ويسعى وراءَ مطلبِهِ وغايتِهِ، بل لقد جاءَ كمخلصٍ لهذه الأمةِ مِن حبائلِ الشركِ والكفرِ، ومستنقذٍ لها من النارِ، إنه رجلٌ لا يوجد مثيله، ولا يعرف في البشر نظيرُهُ، رجلٌ استطاعَ في فترةٍ وجيزةٍ أن يغيرَ مسارَ التاريخِ، وأن يجعلَ من نفسِهِ حَدًّا فاصلًا بين الظلمةِ