الخطبة الأولى
  عجيبٌ أمرُ قومٍ يشيدون ما اندرسَ من آثارِ الجاهليةِ، ويحيون ما أماتَهُ الإسلامُ، ثم يعمدونَ إلى آثارِ الإسلامِ ومآثرِهِ الخالدةِ فتُطْمَسُ عن آخرِها، ويهدمُ ما بناهُ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ في بدايةِ الإسلامِ، ويُشَيَّدُ في مكانِها بناءاتٌ حديثةٌ تنسي ما مضى من حياةِ الإسلامِ وعهدهِ المشرقِ وذكرياتِهِ الخالدةِ.
  فأضحت الأماكنُ المقدسةُ في مكةَ والمدينةِ أثرًا بعدَ عينٍ لم يعدْ بها ما يُذَكِّرُنا بماضي حضارةِ الإسلامِ سوى المحرابِ ومكانِ المنبرِ والروضةِ الشريفةِ.
  لقد طُمِسَتْ كلُّ تلك الآثارِ الخالدةِ العامرةِ بالروحانيةِ والمعاني الساميةِ، والتي يستوحي منها الزائرُ نسماتِ الإيمانِ، ويشمُّ من ملامحِها عبقَ نورِ الإسلامِ، وتغمرُهُ لحظاتٌ غامرةٌ بالروحانيةِ يعيشُ معها أحلى أيامِ عمرِهِ، يحسُّ بالرسولِ والصحابةِ وأهلِ البيتِ مِن حولِهِ.
  يعيشُ بين هذه المقدساتِ حياةً كلَّها روحانيةٌ ونورانيةٌ تملأُ قلبَهُ بعبقِ الإيمانِ.
  يعايشُ واقعَ المسلمين، ويلمسُ ما كانوا عليه من تقشفٍ وزهدٍ وحياةٍ بسيطةٍ.
  يتجولُ بين عمران كانت بالأمسِ منارًا يهتدى به، يتجولُ بين أزقةِ قلعةٍ كانت في يومٍ ما مركزَ القيادةِ والإمارةِ التي تصدرُ منها وإليها أحكامُ تلك المملكةِ.
  لكن وللأسفِ كلُّ ذلك قد بادَ وامتحى، و الزائرُ اليومَ يشعرُ بأنه يتجولُ بين رياضٍ وحدائقَ وأماكنَ أقربَ للترفيهِ منها للتذكيرِ، لا تحملُ أيَّ معانٍ دينيةٍ ولا روحانية.
  حتى البقيعُ وتلك المشاهدُ المقدسةُ والمضاجعُ التي يتوسدُ لحودَها أولئك العظماءُ الذين شادوا الدينَ، وحملوا على عواتِقِهم أعظمَ رسالاتِ السماءِ، والذين أهرقوا دماءَهم رخيصةً من أجلِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ.
  كلُّها طُمِسَتْ وسُوِّيَتْ وذَهَبَتْ آثارُها، ولم يبقَ منها سوى كومةٍ من الترابِ