الخطبة الثانية
  والفداءِ، وَقَدَّمَ دروساً زاخرةً بالعبرِ والعظاتِ حَرِيٌّ بنا أن نجعلَها نموذجًا فَذًّا ونبراسًا وضاءً نسيرُ على دربِهِ ونقتفي خُطاه.
  لم يدعْ لنا ذلك التاريخُ فراغًا في شأنٍ إلا وطرقَهُ ودخلَهُ من أوسعِ أبوابِهِ، ورمى فيهِ بحظٍّ وافرٍ في الشجاعةِ والبطولةِ وفي الزهدِ وفي كلِّ خصلةٍ حميدةٍ، وفي كلِّ ما له صلةٌ بالدينِ والدنيا.
  إنَّ مكةَ والمدينةَ وبغدادَ والكوفةَ ودمشقًا وغيرَها من بلادِ المسلمين كانت تحملُ بين حناياها وتضمُّ بين أسوارِها أعظمَ تراثٍ عرفتْهُ البشريةُ، وأعرقَ الحضاراتِ، وأمجدَ آثارٍ على وجهِ الدنيا ابتداءً من نمطِ البناءِ وأصولِ العمارةِ، ودورِ العبادةِ، ومجالسِ القضاءِ، ومدارسِ العلمِ والمخطوطاتِ الأثريةِ وآلاتِ الحربِ ومصانعِ الأسلحةِ، وبيوتِ مالِ المسلمين، وأماكنِ الأمارةِ، ومواقعِ الحصونِ والقلاعِ، ومواقعِ المعاركِ والغزواتِ.
  وكذا ما حوته تلك الحُقُبُ الزمنيةُ من نهضةٍ علميةٍ وسياسيةٍ، وما خلفته من ميراثٍ فكريٍّ وسياسيٍّ وعلميٍّ، وما بقيَ من آثارِ أبنيةٍ إسلاميةٍ، وغيرِ ذلك من العاداتِ والتقاليدِ والتي لها أبلغُ الأثرِ في النفوسِ، والتي تفوحُ بالروحانيةِ والطقوسِ الدينيةِ.
  ولكنْ للأسفِ الشديدِ ذهبتْ كلُّ تلك الحضارةِ أدراجَ الرياحِ، لم يبقَ منها سوى الأطلالِ وحنينِ الذكرياتِ، وما دَوَّنَتْهُ الأقلامُ على صفحاتِ الكتبِ، وما بقيَ في مخيلةِ المؤرخين؛ إذ أضحتْ أثرًا بعد عينٍ، وانطمستْ تلك المعالمُ، واندثرتْ تحتَ أنقاضِ الحضارةِ المعاصرةِ، والتوسعِ العمرانيِّ الجارفِ الذي قضى على كلِّ آثارِ الإسلامِ.
  فهذا أحدُ العواملِ التي كان لها أبلغُ الأثرِ في طمسِ كلِّ ما من شأنِهِ أن يُذَكِّرَ بالإسلامِ ويوحي بتاريخِهِ المجيدِ.