سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 345 - الجزء 2

  ولا زالَ الحسينُ # يتلفتُ الفينةَ بعدَ الأخرى هنا وهناك، يبحثُ عن غبارٍ يبعثُ بخبرٍ، أو رايةٍ تخفقُ أو فرسٍ يعدو من قِبَلِ الكوفةِ ولو لفارسٍ واحدٍ يأتي لنصرتِهِ، ولكن:

  لقد أسمَعْتَ لو ناديتَ حيًّا ... ولكن لا حياةَ لمن تنادي

  ونار لو نفخت بها أضاءَتْ ... ولكن أنت تنفخ في رماد

  فأهلُ الكوفةِ قد نكثوا البيعةَ، وعادوا للمكرِ والخديعةِ، وأخلفوا اللهَ ما وعدوه، ونقضوا العهودَ والمواثيقَ، وزادتْ بهمُ الجرأةُ فأقدموا على قتلِ رسولِ الحسينِ # مسلمِ بنِ عقيلٍ، ولم يكتفوا بذلك، بل لقد خرجوا موجهين رماحَهم وسيوفَهم إلى صدرِ الحسينِ وأهلِ بيتِهِ.

  ولَمَّا تحققَ للإمامِ الحسينِ الخبرُ، واطَّلَعَ على جليةِ الأمرِ عادَ إلى الخيامِ، وجمعَ أصحابَهُ، وأخبرَهم بما بلَغَهُ عن أهلِ الكوفةِ من الأخبارِ، ثم قالَ لهم: إنَّ القومَ لا يطلبون غيري، وأنتم اليومَ في حلٍّ من بيعتي، فإذا أقبلَ الليلُ فتفرقوا في الصحراءِ تحت جنحِ الظلامِ، وانجوا بأنفسِكم.

  ولكن القوم أبوا ورفضوا ما عَرَضَهُ عليهم، وأقسموا على أنفسِهم أن يهلكوا دونَهُ.

  وكيف تطيبُ نفوسُهم بأن يسلِّموا ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ ÷ لقمةً سائغةً لتلك الذئابِ المفترسةِ؟

  وكيف يرضى مؤمنٌ أن ينجوَ بنفسِهِ ويتركَ حرمَ رسولِ اللهِ ونسائِهِ وأطفالِهِ في تلك الصحراءِ بين أيدي تلك الوحوشِ التي لا ترحمُ؟

  ما حجتُهم عندَ رسولِ اللهِ أن يتركوا أبناءَهُ عرضةً للسلبِ والنهبِ، وطعاماً للسيوفِ المرهفاتِ.

  لقد رفضوا ما عرضَهُ عليهم الحسينُ # وعقدوا العزمَ على أن يقدموا