الخطبة الثانية
  يرتعشون كالفراخِ على شفيرِ البئرِ، فمنهم من يدلي رأسَهُ إلى بطنِ البئرِ لينظرَ هل ظهرَ الماءُ أم لا.
  فيا لهفي على تلك الوجوهِ النظرةِ، والقلوبِ البريئةِ، والشفاهِ الذابلةِ، وتلك العيونِ الشاخصةِ نحوَ البئرِ، تنتظرُ ولو قطرةً من الماءِ، وكلما أخرجَ العباسُ شيئًا من الترابِ أخذتْهُ النساءُ لبرودتِهِ، ويضعْنَهُ على قلوبِ الأطفالِ ليسكنَ حرَّ قلوبِهم، وما زالوا يتقاسمونَ الترابَ النديَّ الذي يخرجُ من البئرِ، فمنهن من تجعلُهُ على فؤادِ ولدِها، ومنهن من تفرشُهُ تحتَها، وتلقى بنفسِها عليه، ومنهن من تمسحُ به فؤادَها، وهم يسألون العباسَ عن خروجِ الماءِ، وهو يَعِدُهم بذلك، ويقولون: أسرعْ بالماءِ يا عماه، فقد أضرَّ بِنا العطشُ، وأحرقَ أحشاءَنا الظمأُ.
  فيا لهفي لهم، قد جفتْ ألبانُ الأمهاتِ، ويبست ألسنةُ الأطفالِ في أفواهِهم، وهم ينتظرون خروجَ الماءِ من البئرِ، ولكن ويا للحسرةِ بعد أن خرج لهم ماءً عذبًا زلالًا وشربوا منه سرعان ما دفنته الرمال، ولم يعد هناك وقت للحفر فقدوا الأملَ، وأيسوا من الماءِ، وأيقنوا بالهلاكِ.
  عبادَ الله:
  في اليومِ العاشرِ من محرمٍ الحرامِ بدأتْ ساعةُ الصفرِ تدقُّ ناقوسَ الخطرِ، وتؤذنُ بالويلِ والثبورِ وعظائمِ الأمورِ، فرمى ابنُ سعدٍ بأولِ سهمٍ إلى ناحيةِ معسكرِ الحسين مؤذنًا ببدءِ المعركةِ، واعتناقِ السيوفِ، وهجمتْ الجيوشُ، وتقدمتْ الكتائبُ نحوَ معسكرِ الحسينِ، نحوَ سبعين من الشيعةِ الأخيارِ، ومن معهم من الصبيةِ والأطفالِ، والتحمتِ المعركةُ واصطدمتِ الفرسانُ وكثرُ الضربُ والطعانُ.
  وثبتَ أنصارُ الحسينِ ثباتَ الجبالِ الرواسي، وصمدوا صمودَ البواسلِ، وصبروا وصابروا ورابطوا، وأظهروا من الشجاعةِ والبسالةِ ما حيرَ الألبابَ