سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 351 - الجزء 2

  فما حملَكِ على هذا؟ فقالت: رأيتُ شيئًا ما لي قرارٌ إليه، فقد رأيتُ الحسينَ ينادي: أما مِن ناصرٍ؟ أما مِن معينٍ، فارجعْ يا وهبُ، فقاتلْ حتى تموتَ دونَهم.

  فرجعَ فقاتلَ حتى قُتِلَ (|)، وقاتلتْ زوجتُهُ حتى تكسَّرَ عمودُ الخيمةِ وهو في يدِها، فجاءَ الحسينُ وردَّها إلى مخيمِها، وقيل: إنها قتلتْ.

  ثم برزَ جونُ مولى أبي ذرٍّ الغفاري وكان عبدًا أسودَ فقالَ له الحسينُ #: أنت في إذنٍ مني، [أي: أنت معفيٌّ من القتالِ]، فإنما تبعتَنا للعافيةِ فلا تبتلي بطريقنا.

  فقالَ: يا ابنَ رسولِ اللهِ، أنا في الرخاءِ ألحسُ قصاعَكم، وفي الشدةِ أخذلُكم، واللهِ إن ريحي لنتنٌ، وإن لوني لأسودُ، وإن حَسَبي للئيمٌ، فلا واللهِ لا أفارقُكم حتى يطيبَ ريحي، ويبيضَّ وجهي، وَيَشْرُفُ حسبي ونسبي، فأذنَ له الحسينُ، فخرجَ نحوَ القومِ فقاتلَ حتى قُتِلَ (|)، فهكذا يكون الوفاءُ، إنه عبدٌ ولا خبرةَ له بالحربِ، وقد عفاه الحسينُ، ولكنه أبى إلا يواسيهم في الملماتِ، كما يواسونه في أيامِ النعمةِ والرخاءِ.

  ولما قُتِلَ جونُ مضى الحسينُ # إلى مصرعِهِ فمسحَ الدمَ والترابَ عن وجهِهِ، ووضعَ خدَّهُ على خدِّهِ، وجعلَ يقولُ: اللهم بيضْ وجهَهُ واحشرْهُ مع الأبرارِ محمدٍ وآلِهِ الأطهارِ.

  فأفاقَ جونُ وقد كان بقيَ فيه رمقٌ من الحياةِ، ونظرَ إلى الحسينِ # بطرف خفي وهو واضعٌ خدَّهُ فوقَ خدِّهِ، فجعلَ العبدُ يفخرُ ويقولُ: مَن مثلي يضعُ ابنُ رسولِ اللهِ خدَّهُ فوقَ خدِّي، ثم توفي |.

  ثم برزَ مُسلمُ بنُ عوسجةَ فقاتلَ حتى قُتلَ، ثم برزَ حبيبُ بنُ مظاهر فقاتلَ حتى قُتلَ [رحمهم الله جميعاً].

  وما زالَ ِأصحابُ الحسينِ يبرزونَ الواحدَ تلوَ الآخر حتى قُتلوا جميعًا رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين.