الخطبة الثانية
  ثم أمرَهُ الحسينُ # أن يستودعَ أخواتِهِ وبناتِ أخيه فدخلَ المخيمَ وجعلَ يودعُهم وداعًا لا رجوعَ بعدَهُ، وقد اشتدَّ العطشُ بالنساءِ والأطفالِ.
  فقالوا له: يا أبا الفضلِ إذا انتصرتَ على الأعداءِ فأتنا بشربةٍ من ماءٍ، وأقبلتْ عليه سُكينةُ بنتُ الحسينِ تسألُهُ جرعةً من ماءٍ، ووعدهنَّ بإتيان الماءِ، وأخذَ القربةَ بكتفِهِ، والعلم بيسارِهِ وخرجَ إلى القومِ.
  فلما توسطَ أرضَ المعركةِ فرُّوا من بين يديه، ولم يتجاسرْ أحدٌ أن يلقاه، فنادى العباسُ قائلًا: يا ابنَ سعدٍ، هذا الحسينُ بنُ بنتِ رسولِ اللهِ يقولُ لكم: إنكم قتلتم أصحابَهُ وإخوانَهَ وبنيه وبني أخيه، وقد بقيَ وحيدًا فريدًا مع بعضِ أهلِ بيتِهِ، وهذه نساؤُهُ وأطفالُهُ عطاشى، قد أحرقَ قلوبُهم الظمأُ، فخلوا بينه وبين ماءِ الفراتِ فإنه أشرَفَ على الهلاكِ هو وأهلُ بيتِهِ، ومع ذلك يقول لكم: دعوني أذهب إلى بلادِ الهندِ والرومِ، وأخلي لكم الحجازَ والعراقَ، فلما سمعوا كلامَهُ قالوا له: يا ابنَ أبي تراب، قل لأخيك الحسينِ: لو كان ماءُ الأرضِ تحتَ أيدينا ما سقيناكم منه قطرةً واحدةً حتى تنزلوا على حكمِ ابنِ زيادٍ أو تذوقوا الموتَ غصةً بعدَ غصةً.
  عند ذلك حملَ عليهم العباسُ، وفرَّقَهم عن الماءِ بعد قتالٍ شديدٍ حتى استلمَ مشرعةَ الماءِ، فنزل عن جوادِهِ وأخذَ جرعةً من الماءِ ليشربَها فتذكرَ عطشَ أخيه الحسينِ وأهلِ بيتِهِ فرمى بالماءِ من يدِهِ، وقال: لا ذُقْتُهُ وأخي الحسينُ عطشان.
  ثم ملأَ القربةَ وذهبَ يريدُ أن يوصلَها إلى مخيمِ النساءِ والأطفالِ، فأطبقَ عليه القومُ من كلِّ مكانٍ، وقطعوا عليه الطريقَ، وجعلوا يرشقونَهُ بالنبالِ حتى صارَ كالقنفذِ، وهو يدافع عن القربةِ، ثم هجموا عليه فضربوا يمينَهُ فقطعوها، وجعلَ يجاهدُ بشمالِهِ فأحاطوا به وضربوه على يسارِهِ فقطعوها، فعجزَ عن القتالِ وتكاثرَ عليه الأعداءُ، فأخذَ القربةَ بأسنانِهِ، وهو يريدُ أن يوصلَها إلى النساءِ والأطفالِ كما وَعَدَهم، فكمنوا له خلفَ نخلةٍ وضربوه بعمودٍ شدخَ رأسَهُ، وانطرحَ صريعًا