الخطبة الثانية
  وقال له: يا ابنَ أخي أتمضي إلى الموتِ؟ قال: أجلْ يا عماه، لا بدَّ من الموتِ، وجعلَ القاسمُ يقبلُ يدي عمِّهِ الحسينِ، ويلحُّ عليه في الطلبِ حتى أذنَ له في الخروجِ، ثم ألبسَهُ عمامةَ أبيه الحسنِ، وألبسَهُ ثوبًا على صورةِ الكفنِ، ثم أرسلَهُ نحوَ القومِ، ولم يكن أحدٌ من أهلِ البيتِ، بل ولا من غيرهم قد خرجَ في لباسِ الموتِ والأمواتِ إلا القاسمَ فنظرَ إليهِ القومُ وقد أدهشَهم صورةُ الكفنِ وتذكروا الآخرةَ، وكان من عادةِ العريسِ أن يلبسَ ثيابَ الزينةِ وأفخرَ الثيابِ إلا القاسم فقد ألبسوه ثيابَ الموتِ والأمواتِ، فخرجَ إلى القومِ وقاتلَهم حتى قَتَلَ منهم عدَّةَ رجالٍ، فانقطعَ حذاءَهُ فانحنى يصلحُها، فاغتنمَ أحدُ الأعداءِ الفرصةَ، فهوى عليه بالسيفِ وضربَ رأسَهُ فوقعَ القاسمُ صريعًا على وجهِهِ، وقد صبغتِ الدماءُ ثيابَهَ، فنادى بأعلى صوتِهِ: يا عماه أدركني.
  فوثبَ الحسينُ # ناحيةَ الصوتِ، وضربَ قاتلَ القاسمِ فقطعَ يدَهُ وانحنى على القاسمِ فإذا روحُهُ قد فارقتِ الحياةَ، فحملَهُ بين يديه وذهبَ به إلى المخيمِ.
  ثم مَرَقَ عليُّ بنُ الحسينِ الأكبرُ من بين الخيامِ كالسهمِ إلى جهةِ الأعداءِ، وكلُّهُ شوقٌ إلى لقاءِ اللهِ، وكان أشبهَ الناسِ برسولِ اللهِ ÷، فلما رآه الحسينُ متوجهًا نحوَ القومِ الظالمين أيسَ منه ولم يستطعْ إرجاعَهُ وأرخى عينيهِ بالدموعِ فانهملتْ على خديهِ.
  ثم قال: اللهم كنْ أنتَ الشهيدَ على هؤلاءِ القومِ فقد برزَ إليهم غلامٌ أشبهُ الناسِ برسولِكَ ونبيئِكَ محمدٍ.
  فقاتلَ عليُّ الأكبرُ ساعةً، ثم عادَ إلى المخيمِ وهو يقولُ: يا أبتي، العطشُ قتلني، وثقلُ الحديدِ أجهدَني - وكان لا يقوى على حملِ السيفِ لصغرِهِ وضعفِهِ - فهل إلى شربةٍ من ماءٍ أتقوى بها على الأعداءِ، وكان من عادةِ العربِ أن إذا رجعَ إليهم الفارسُ استقبلوه بالماءِ يطفئُ به لهيبَ قلبِهِ.