الخطبة الأولى
  فهل تستشعرُ قلوبُنا هذه المعاني؟! إن المتأملَ في حالِ الإنسان الغافلِ يجدُ بأن قلبَه قد انطوى على أن ليس هناك شيء أكبرُ وأهمُ من الدنيا، وما حوتهُ من القناطيرِ المقنطرةِ من الذهبِ والفضةِ والخيلِ المسومةِ، والمالِ والبنينَ والأزواجِ.
  لا إله إلا الله ما أبعدَ ما بين لفظِ اللسانِ وضميرِ الإنسانِ، ما أبعدَ ما بين نُطْقِهِ، وما هو عليه في عملِه؛ يعظّمُ اللهَ ويقدسُه بلسانِه، ويفعلُ بخلافِ ذلك.
  ومسألةٌ أخرى هي أن هناك من يستعيذُ باللهِ من الشيطانِ بلسانِه ويستجيرُ به من كيده، ويطلبُ من اللهِ أن يُجيرَه ويحميَهُ من الشيطانِ.
  بينما فعلُه في واقعِ الأمرِ مخالفٌ لما نطقَ به لسانُه فتراه يسلك سُبُلَ الشيطانِ ويتركُ سبيلَ ربِه.
  ما الفائدةُ في أن يطلبَ من اللهِ النجاةَ ويتوسلَ إليه بأن يبعدَ الشيطانَ عنه ويحولَ بينه وبينه، وما إن يتمُّ كلامُه ويغلقُ فمَه حتى يُشمّرَ ليبحثَ عن ذلك الشيطانِ بنفسِه، وعن مجالسِه وأماكنِ تواجدِه مع أوليائِه، ليذهبَ إليهم بمحضِ إرادتِه على قدميه، فلا يسمعُ بمجلسِ سوءٍ إلا دخلَه، ولا يخوضون في كلامِ فحشٍ إلا خاضَ فيه. ولا يعلمُ دارَ غِنَاءٍ أو حفلةَ رقصٍ إلا قصدَها، ولا مقيلَ غيبةٍ ونميمةٍ وهتكٍ للإعراضِ إلا جلسَ فيه، ما جدوى أن يسألَ اللهَ أن يبعدَ الشيطانَ عنه بلسانِه ثم يدعو بفعلِه، بل ويتمنى الحصولَ على الفاحشةِ بقلبِه.
  ويسعى بكلِّ جهدِه لإشباع رغبتِه إما بغناءٍ أو بكلامِ فحشٍ، أو بنظرٍ للنساءِ أو غيرِ ذلك من سبلِ الشيطانِ، ما جدوى أن أسألَ الله أن يُجيرني من الشيطانِ ويحرسَني ويسترني لئلا يتسلطَ عليّ؛ بينما أنا في الحقيقةِ أستجيرُ بالشيطانِ بعملي. فكم مِنْ مستعيذٍ باللهِ من الشيطانِ، وهو هاربٌ إلى بيتِ الشيطانِ ليسترَه ويخفيَه لكي يفعلَ المنكرَ والفحشاءَ.
  {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} فإذا ما انتهى من عمل