سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 79 - الجزء 1

  من زمن موسى إلى زمنِ المصطفى محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ÷ - الذي بنى رجالاً وأيَّ رجالٍ - سَطَّرُوا بدمائِهم سِيَراً عطرةً سجلت أحداثَها بأحرفٍ من نورٍ على صفحاتِ التاريخِ، وضربوا أروعَ الأمثلةِ، وأبهى المشاهدِ الخالدةِ، ولولا أنها وقعت بالفعلِ لعُدّتْ من أحلامِ الحالمين.

  هذا هو بلالُ بنُ رباحٍ، عبدٌ حبشيٌ اعتنقَ الإسلامَ وجهرَ بالدعوةِ، فما كان من سيدِهِ أميةَ بنِ خلفٍ إلا أن استشاطَ غيظاً وغضباً عليه. فهددَ بلالاً وتوعدَهُ وحاولَ بكلِّ وسيلةٍ أن يُثنيَه عن دينِه ومبدئِه، وأن يُعيدَه إلى سبيلِ الغيِّ والضلالِ، ولكنَّ جميعَ محاولاتِه باءتْ بالفشلِ.

  فما كان منه إلا أن أنزلَ به أشدَّ العقابِ، وأذاقَه ألوانَ العذابِ. كان يُخرجُه في حَرِّ الظهيرةِ إلى رمضاءِ مكةَ، وهي لشدةِ الحرِّ كأنها قطعةٌ من نارٍ، تلهبُ الأقدامَ لشدةِ حرِّها، وتلفحُ الوجوهَ من فوحِ هواها، فيُجردُه من ثيابِه، ويُلقيه على ظهِره، بين لهيبِ رمضائِها وحميمِ رملِها. ويضعُ على صدرِه صخرةً عظيمةً لا ينقُلها إلا عددٌ من الرجالِ.

  فتراهُ يعاني حرَّ الشمسِ من فوقِه، ولهيبَ الرمل من تحتِه، وثقلَ الصخرةِ على صدرِه، وألمَ الجوعِ في أحشائِه، ولهيبَ الظمأِ في كبدِه، ومع وهنِ قوتِه وضعفِ بدنِه، فإنهم لم يكتفوا بذلك، بل وكَّلوا به أشدَّ العبيدِ غلظةً وفظاظةً، يتعاقبون عليه الواحدُ تلو الآخر، يكيلونه ضرباً بالسِّياطِ، وكيّاً بالنارِ إلى غيرِ ذلكَ من ألوانِ العذابِ.

  ومع ذلك لم يستطيعوا أن يثنوه أو يحوِّلوه، أو يردُّوه عن مبدَئِه ودينِه، بل كان شعارُه الذي يرددُه مِن حينٍ لآخرَ هو (أحدٌ أحد) إنه وَحَّدَ اللهَ وكفرَ بما دونَ ذلك، إنه مع اللهِ الواحدِ الأحدِ، قالوا: يا بلالُ ارفقْ بنفسِك وبِنا فقد أتعبْتَنا، فاذكرْ الآلهةَ بخيرٍ واذكرْ محمداً بسوءٍ.