سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 80 - الجزء 1

  يا للهِ، مجموعةٌ من أشدِ العبيدِ قوةً وبأساً، أتعبَهم ذلك الجسدُ المُسجى على الأرضِ، الذي يتلوَّى من شدةِ الضعفِ والوهنِ.

  فإذا كانوا قد تعِبوا من التعذيبِ فكيف بحالةِ المعذَّب. قالوا: أرفق بنفسِك وبِنا فقد أتعبْتَنا.

  فردَّ عليهم بصوتٍ ضعيف قد أنهكَهُ التعبُ والجوعُ والظمأُ (أحدٌ أحد)، ولسانُ حالِه: (هذا جسدي بينَ أيدِيكم أفعلوا به ما شئتم بإمكانِكم أن تُعذِّبُوه، بإمكانِكم أن تُمزِّقوهُ، بإمكانِكم أن تُحرقوه وتصلِّبُوه، أما مبدئي وعقيدَتي وما انطوى عليه مكنونُ سِرِّي، وما حلَّ في جوانِحِي، واختلجتْ به سويداءُ قلبي فلن تَصِلُوا إليها، هيهاتَ هيهاتَ أن تَقْدروا على تحويلِها أو تبديلِها وليس باستطاعةِ سياطِكم ونارِكم وجبروتِكم أن تصلوا إليها).

  فهذا أُنموذجٌ من مدرسةِ رسولِ اللهِ ÷ وما كان عليه هو وأصحابُه، أمثال عمارِ بنِ ياسرٍ، وصهيبٍ، وأبي ذرٍ الغفاري، وسلمانَ وغيرِهم ¤ وأرضاهم، كثيرٌ بالعشراتِ والمئاتِ من المستضعفينَ، الذين صبروا وعلى ربِّهم يتوكلون، الذين بنوا نفوسَهم على تقوى من اللهِ ورضوانٍ، إنهم فتيةٌ آمنوا بربِّهم وزدناهم هُدى.

  {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.

  فأينَ نحنُ عبادَ الله من هذِه الجبالِ الرواسي، والقممِ الشامخةِ الشمّاءِ، التي تحطمتْ على صخراتِها الصماءِ كلُّ أنواعِ التهديداتِ والإغراءاتِ.

  هُنا وما أدراك ما هُنا؟ هُنا في هذا الزمنِ التعيسِ الذي استرخصت فيه النفوسُ، وصودِرت فيه الحرياتُ، وبِيْعَ الدينُ فيه بأبخسِ الأثمانِ، وتُوْجِرَ فيه بالعقائدِ والمبادئِ. هُنا قلوبٌ بُني إيمانُها على شكٍّ وريبةٍ، وتمسكت بحبالٍ هي أوهنُ من خيوطِ العنكبوتِ، يبيعون دينَهم بعرضٍ من الدنيا زهيدٍ.