سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 88 - الجزء 1

  الزيتِ يفورُ بها ... تنظرُ الأمُّ إلى عِظامِه ... وقد رَحَل عنها إلى دارٍ أخرى ..

  وهي تبكي ... وتتقطعُ لفراقِه ... طالما ضمَّتْهُ إلى صدرِها ... وأرضعتْهُ مِن ثديِها ... طالما سَهِرَتْ لسهرِه ... وبكت لبكائِه ..

  كم ليلةٍ باتَ في حجرِها ... ولَعِبَ بشعرِها ... كم قربت منه ألعابَه ... وألبسته ثيابَه ..

  فجاهدتْ نفسَها أن تتجلَّد وتتماسَكَ ... فالتفتوا إليها ... وتدافعوا عليها ..

  وانتزعوا الخامسَ الرضيعَ من بينَ يديها ... وكان قد التقمَ ثديَها ..

  فلما انتزعَ منها ... صرخَ الصغيرُ ... وبكتْ المسكينةُ ... فلما رأى اللهُ تعالى ذلَّها وانكسارَها وفجيعتَها بولدِها ... أنطقَ الصبيُّ في مهدِه وقال لها:

  يا أماه اصبري فإنّك على الحقِّ ... ثم انقطعَ صوتُه عنها ... وغُيِّبَ في القدرِ مع إخوتِه ... أُلقِيَ في الزيتِ ... وفي فمه بقايا من حليبِها ..

  وفي يده شعرةٌ من شعرِها ... وعلى أثوابِه بقيةُ من دمعِها ..

  وذهبَ الأولادُ الخمسةُ ... وها هي عظامُهم يلوحُ بها القِدْرُ ..

  ولحمُهم يفورُ بِه الزيتُ ... تنظرُ المسكينةُ ... إلى هذه العظامِ الصغيرةِ ..

  عظامُ مَنْ؟ إنهم أولادُها ... الذين طَالمَا ملأُوا عليها البيتَ ضحكاً وسُروراً ... إنهم فَلَذَاتُ كبِدِها ... وعصارةُ قلبِها ... الذين لما فارقوها ... كأن قلبَها أُخْرِجَ من صدرِها.

  طالما رَكَضُوا إليها ... وارتَمَوا بينَ يديها ... وضمتْهُم إلى صدرِها ... وألبستْهُم ثيابَهم بيدِها ... ومسحتْ دموعَهم بأصابِعها ... ثم ها هم يُنْتَزَعُون من بينِ يدَيْها ... ويُقْتَلُون أمامَ ناظِرِيها ..

  وتركوها وحيدةً ابعدوهم عنها ... وعن قريبٍ ستكونُ معهم ..

  كانت تستطيعُ أن تحولَ بينَهم وبينَ هذا العذابِ ... بكلمةِ كفرٍ.

  تُسْمِعُها لفرعونَ ... لكنَّها علمتْ أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى ..

  ثم ... لما لم يبقَ إلا هي ... أقبلوا إليها كالكلابِ الضاريةِ ... ودفعوها إلى القِدْرِ ..

  فلما حملوها لِيقذفُوها في الزيتِ ... نظرتْ إلى عظامِ أولادِها ... فتذكَّرتْ