شرح شذور الذهب،

ابن هشام الأنصاري (المتوفى: 761 هـ)

ترجمة العلامة الراحل محمد محيى الدين عبد الحميد

صفحة 24 - الجزء 1

  له أصالته ونفاسته، وبقي - مع ذلك - من أهل البلاد جماعة لم تلن قناتهم، ولم تتحطم أعوادهم، ولم تفتر عزائمهم، ولم يخدعهم ذلك البريق، ولكنهم تطامنوا للعاصفة الهوجاء وقبعوا في أماكنهم - لا ضعفا ولا استكانة، ولا رهبة ولا خوفا، ولا رضا بما عليه الناس من حولهم - ليعدوا أنفسهم وليهيئوا الجو الصالح، وليبصروا قومهم في حذر وترقب، حتى إذا اكتمل الوعي وجاء وعد الانتفاضة هبّوا، فإذا الناس يهبّون معهم من كل جانب، وإذا معدن الشرق الأصيل الكريم يظهر على حقيقته، وإذا أبناء الشرق جميعا يتقدمون للعمل وينتظرون التوجيه، وإذا الاستعمار يتخاذل ويستخذي ويتضاءل، ثم إذا هو يضع عصاه على كتفه ويحاول النجاء.

  ويتلفت المصلحون وينظرون فيما يعيدهم أمة قوية حية ناهضة عزيزة مرهوبة الجانب، فيجدون أن لا مناص لهم من العودة إلى الماضي المجيد، يصلون به حاضرهم ويبنون عليه مستقبلهم، الماضي المجيد بوحدته التي تصمد وتتعاون وتتساند وتتكافل، ويكون معها الجميع كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وبحضارته التي بهرت أنظار العالم ولم تبخل على أحد بشيء منها، ولم تحاول التغرير بأحد ولا استغلاله ولا الاستعلاء عليه، ولم تدّع لنفسها ما ليس لها، ولا زيفت التاريخ وغضت من حضارات سبقتها واقتبست هي منها، لأنها غنية بمفاخرها وأمجادها، فليست بها حاجة إلى أن تسلب أمجاد غيرها ولا مفاخرهم، ولأنها حضارة بنيت على مكارم الأخلاق واحترام المثل العليا، وليس من مكارم الأخلاق ولا من احترام المثل العليا أن تنسب لنفسها ما هو من صنيع غيرها»⁣(⁣١).

  ثم يضيف:

  «وقد أظهر ناشر هذا الكتاب من البراعة والحذق في اختياره، في هذه الفترة التي نجتازها اليوم، ما هو خليق بالتقدير والثناء، فنحن في حاجة ماسة إلى نظرة فاحصة في تشريعاتنا في الدماء والأموال والأحوال الشخصية، ونحن في حاجة ماسة إلى أن يطلع أهل الرأي منا على آراء الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة في ذلك كله، ونحن في


(١) من مقدمة كتاب «الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية.