البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

مقدمة

صفحة 17 - الجزء 1

  وافرين⁣(⁣١) ما نأل رجلا منهم كلم⁣(⁣٢)، ولا أريق لهم دم، فلو أن رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان عندي جديرا.

  «فواعجبا من جدّ هؤلاء في باطلهم، وفشلكم عن حقّكم. فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى⁣(⁣٣)، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى اللّه وترضون⁣(⁣٤).

  فانظر كيف تدرج ابن أبي طالب في إثارة شعور سامعيه حتى وصل إلى القمّة فإنه أخبرهم بغزو الأنبار أولا، ثم بقتل عامله، وأنّ ذلك لم يكف سفيان بن عوف فأغمد سيوفه في نحور كثير من رجالهم وأهليهم.

  ثم توجه في الفقرة الثانية إلى مكان الحميّة فيهم، ومثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربى كريم، ألا وهو المرأة، فإن العرب تبذل أرواحها رخيصة في الذود عنها، والدفاع عن خدرها. فقال: إنهم استباحوا حماها، وانصرفوا آمنين.

  وفي الفقرة الثالثة أظهر الدّهش والحيرة من تمسك أعدائه بالباطل ومناصرته، وفشل قومه عن الحق وخذلانه. ثم بلغ الغيظ منه مبلغه فعيّرهم بالجبن والخور.

  هذا مثال من أمثلة الأسلوب الخطابي نكتفي به في هذه العجالة، ونرجو أن نكون قد وفقنا إلى بيان أسرار البلاغة في الكلام وأنواع أساليبه، حتى يكون الطالب خبيرا بأفانين القول، ومواطن استعمالها وشرائط تأديتها، واللّه الموفق.


(١) وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم.

(٢) الكلم بالفتح: الجرح.

(٣) الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها.

(٤) يشير بالعصيان إلى ما كان يفعله جيش معاوية من السلب والنهب والقتل في المسلمين والمعاهدين، أما رضا أهل العراق بهذا العصيان فكناية عن قعودهم عن المدافعة، إذ لو غضبوا لهموا إلى القتال.