البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

أثر علم المعاني في بلاغة الكلام

صفحة 261 - الجزء 1

  المعمور، لا تعدل سارحتكم⁣(⁣١)، ولا تعدّ فاردتكم⁣(⁣٢) ولا يحظر عليكم النّبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤدون الزكاة، عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه».

  وتكون مطابقة الكلام لمقتضى الحال أيضا فيما يتصرف فيه القائل من إيجاز وإطناب: فللإيجاز مواطنه، وللإطناب مواقعه، كل ذلك على حسب حال السامع وعلى مقتضى مواطن القول؛ فالذكىّ الذي تكفيه اللّمحة يحسن له الإيجاز، والغبىّ أو المكابر يجمل عند خطابه الإطناب والإسهاب.

  وإذا تأملت القرآن الكريم رأيته إذا خاطب العرب والأعراب أوجز كلّ الإيجاز، وأخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم أسهب وأطنب فمما خاطب به أهل مكة قوله تعالى:

  {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}

  وقلما تجد خطابا لبنى إسرائيل إلّا وهو مسهب مطوّل، لأن يهود المدينة كانوا يرون أنفسهم أهل علم وأهل كتاب فتجاوزوا الحد في المكابرة والعناد، وقد يكون القرآن الكريم نزّلهم منزلة قصار العقول فأطنب في الحديث إليهم، ويشهد لهذا الرأي ما حكاه عنهم وعن مقدار معرفتهم بما في أسفارهم.

  وللإيجاز مواطن يحسن فيها، كالشكر والاعتذار والتعزية والعتاب إلى غير ذلك، وللإطناب مواضع كالتهنئة والصلح بين فريقين والقصص والخطابة في أمر من الأمور العامة، وللذوق السليم القول الفصل في هذه الشؤون.

  * * *

  أما الأمر الثاني الذي يبحث فيه علم المعاني فهو دراسة ما يستفاد


(١) لا تعدل سارحتكم. السارحة: الماشية، يريد أن ماشيتهم لا تصرف عن مرعى تريده.

(٢) لا تعد فاردتكم. الفاردة: الزائدة على الفريضة، يقول: لا تضم فاردتكم إلى غيرها فتعد معها وتحسب.