البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

مقدمة

صفحة 13 - الجزء 1

  التي بين يديك تجرى جميعها على هذا النحو من الأساليب.

  (٢) الأسلوب الأدبي: والجمال أبرز صفاته، وأظهر مميّزاته، ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق، وتلمّس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء، وإلباس المعنوىّ ثوب المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنوىّ.

  فالمتنبى لا يرى الحمّى الراجعة كما يراها الأطباء أثرا لجراثيم تدخل الجسم، فترفع حرارته، وتسبب رعدة وقشعريرة. حتى إذا فرغت نوبتها تصبّب الجسم عرقا، ولكنه يصوّرها كما تراها في الأبيات الآتية:

  وزائرتى كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظّلام⁣(⁣١)

  بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي⁣(⁣٢)

  يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام⁣(⁣٣)

  كأنّ الصبح يطردها فتجرى ... مدامعها بأربعة سجام

  أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام⁣(⁣٤)

  ويصدق وعدها والصّدق شرّ ... إذا ألقاك في الكرب العظام⁣(⁣٥)

  أبنت الدّهر عندي كلّ بنت ... فكيف وصلت أنت من الزّحام؟⁣(⁣٦)

  والغيوم لا يراها ابن الخياط⁣(⁣٧) كما يراها العالم بخارا متراكما يحول


(١) الواو واو رب أي رب زائرة لي، يريد بهذه الزائرة الحمى وكانت تأتيه ليلا، يقول:

كأنها فتاة ذات حياء؛ فهي تزورنى تحت سواد الليل.

(٢) المطارف: جمع مطرف كمكرم وهو رداء من خز، الحشايا: جمع حشية وهي الفراش المحشو، وعافتها: أبتها. يقول هذه الزائرة أي الحمى لا تبيت في الفراش، وإنما تبيت في العظام.

(٣) يقول: جلدي يضيق عن أن بسع أنفاسى ويسعها، فهي تذيب جسمي وتوسع جلدي بما تصيبه به من أنواع السقام.

(٤) يقول إنه يراقب وقت زيارتها خوفا لا شوقا.

(٥) يريد بوعدها وقت زيارتها، ويقول إنها صادقة الوعد لأنها لا تتخلف عن ميقاتها، وذلك الصدق شر، لأنها تصدق فيما يضر.

(٦) يريد ببنت الدهر الحمى، وبنات الدهر شدائده، يقول للحمى: عندي كل نوع من أنواع الشدائد، فكيف لم يمنعك ازدحامهن من الوصول إلى؟

(٧) ابن الخياط: شاعر من أهل دمشق، طاف بالبلاد يمتدح الناس، وعظمت شهرته.

وله ديوان شعر مشهور، توفى بدمشق سنة ٥١٧ هـ.