البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

مقدمة

صفحة 14 - الجزء 1

  إلى ماء إذا صادف في الجوّ طبقة باردة ولكنه يراها:

  كأن الغيوم جيوش تسوم ... من العدل في كلّ أرض صلاحا⁣(⁣١)

  إذا قاتل المحل فيها الغمام ... بصوب الرّهام أجاد الكفاحا⁣(⁣٢)

  يقرطس بالطّلّ فيه السّهام ... ويشرع بالوبل فيه الرّماحا⁣(⁣٣)

  وسلّ عليه سيوف البروق ... فأثخن بالضرب فيه الجراحا⁣(⁣٤)

  ترى ألسن النور تثنى عليه ... فتعجب منهن خرسا فصاحا⁣(⁣٥)

  وقد يتظاهر الأديب بإنكار أسباب حقائق العلم، ويتلمس لها من خياله أسبابا تثبت دعواه الأدبية وتقوّى الغرض الذي ينشده، فكلف البدر الذي يظهر في وجهه ليس ناشئا عما فيه من جبال وقيعان جافة كما يقول العلماء، لأن المعرّى⁣(⁣٦) يرى لذلك سببا آخر فيقول في الرثاء:

  وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنها في وجهه أثر اللّطم⁣(⁣٧)

  ولا بد في هذا الأسلوب من الوضوح والقوة؛ فقول المتنبي:

  قفى تغرم الأولى من اللّحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشئ غارمه⁣(⁣٨)

  غير بليغ؛ لأنه يريد أنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته، فيقول لها قفى لأنظرك نظرة أخرى ترد إلىّ مهجتي وتحييها، فإن فعلت كانت النظرة غرما لما أتلفته النظرة الأولى.


(١) تسوم من العدل في كل أرض صلاحا، أي تولى كل أرض صلاحا بالخصب والنماء.

(٢) المحل: الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ، والصواب: نزول المطر، والرهام: جمع رهمة وهي المطر الضعيف الدائم، والكفاح: القتال والمدافعة.

(٣) القرطاس: الغرض أو الهدف، ويقال قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس أي الغرض، فهو يقول: إن الغمام يسدد السهام إلى المحل فيقضى عليه، ومعنى يشرع الرماح يسددها، والوبل: المطر الشديد الضخم القطر.

(٤) أثخن بالضرب فيه الجراح: بالغ الجراحة فيه.

(٥) النور: الزهر.

(٦) المعرى: هو أبو العلاء المعرى اللغوي الفيلسوف الشاعر المشهور، ولد بالمعرة وهي بلد صغير بالشام، وعمى من الجدري وهو في الرابعة من عمره، وتوفى بالمعرة سنة ٤٤٩ هـ.

(٧) الكلفة: حمرة كدرة تعلو الوجه.

(٨) غرم ما أتلفه:

لزمه أداؤه، وتغرم جواب قفى وفاعله الأولى، ومن اللحظ بيان للأولى، ومهجتي مفعول تغرم.