مقدمة
  فانظر كيف عانينا طويلا في شرح هذا الكلام الموجز الذي سبّب ما فيه من حذف وسوء تأليف شدة خفائه وبعده عن الأذهان، مع أن معناه جميل بديع، وفكرته مؤيّدة بالدليل.
  وإذا أردت أن تعرف كيف تظهر القوة في هذا الأسلوب، فاقرأ قول المتنبي في الرثاء:
  ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال يسير(١)
  ثم اقرأ قول ابن المعتز(٢):
  قد ذهب الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدّهر أين الرجال؟
  هذا أبو العبّاس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسير الجبال
  تجد أن الأسلوب الأول هادي مطمئن، وأن الثاني شديد المرّة عظيم القوة وربما كانت نهاية قوته في قوله؛ «وصاح صرف الدهر أين الرجال» ثم في قوله: «قوموا انظروا كيف تسير الجبال».
  وجملة القول أن هذا الأسلوب يجب أن يكون جميلا رائعا بديع الخيال، ثم واضحا قويّا. ويظن الناشئون في صناعة الأدب أنه كلما كثر المجاز، وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأسلوب زاد حسنه، وهذا خطأ بيّن، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التكلف، ولا يفسده شرّ من تعمّد الصناعة. ونعتقد أنه لا يعجبك قول الشاعر:
  فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد(٣)
  هذا ومن السهل عليك أن تعرف أن الشعر والنثر الفنى هما موطنا
(١) رضوى: اسم جبل بالمدينة، شبه المرثى به لعظمته وفخامة قدره.
(٢) ابن المعتز: هو عبد اللّه بن المعتز العباسي، أحد الخلفاء العباسيين، منزلته في الشعر والنثر رفيعة. ويشتهر بتشبيهاته الرائعة، وهو أول من كتب في البديع، توفى سنة ٢٩٦ هـ.
(٣) العناب: ثمر أحمر تشبه به الأنامل، والبرد، حب الغمام وتشبه به الأسنان.