باب فى الاستحسان
  فرفع المفعول ونصب الفاعل، قيل لو لم يحتمل هذا البيت إلا ما ذكرته لقد كان على سمت من القياس، ومطرب(١) متورّد بين الناس؛ ألا ترى أنه على كل حال قد فرق فيه بين الفاعل والمفعول، وإن اختلفت جهتا الفرق. كيف ووجهه فى أن يكون الفاعل فيه مرفوعا، والمفعول منصوبا قائم صحيح مقول به. وذلك أن رعن هذا القفّ لمّا رفعه الآل فرئى فيه، ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورا لو لا هذا الرعن لم يبن للعين فيه بيانه إذا كان فيه؛ ألا تعلم أن الآل إذا برق للبصر رافعا شخصا كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصا يزهاه فيزداد بالصورة التى حملها سفورا، وفى مسرح الطرف تجلّيا وظهورا.
  فإن قلت: فقد قال الأعشى:
  * إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا(٢) *
  فجعل الآل هو الفاعل، والشخص هو المفعول، قيل ليس فى هذا أكثر من أنّ هذا جائز، وليس فيه دليل على أن غيره غير جائز؛ ألا ترى أنك إذا قلت ما جاءنى غير زيد، فإنما فى هذا دليل على أن الذى هو غيره لم يأتك، فأمّا زيد نفسه فلم تعرض للإخبار بإثبات مجئ له أو نفيه عنه، فقد يجوز أن يكون قد جاء وأن يكون أيضا لم يجئ.
  إن قلت: فهل تجد لبيت الجعدىّ على تفسيرك الذى حكيته ورأيته نظيرا؟ قيل: لا ينكر وجود ذلك مع الاستقراء؛ واعمل فيما بعد على أن لا نظير له؛ ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئا وسمع ذلك الشئ عينه، فقد ثبت قدمه، وأخذ من الصحّة والقوّة مأخذه، ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير؛ لأنّ إيجاد النظير وإن كان مأنوسا به فليس فى واجب النظر إيجاده؛ ألا ترى أن قولهم: فى شنوءة شنئىّ، لمّا قبله القياس لم يقدح فيه عدم نظيره؛ نعم ولم يرض له أبو الحسن بهذا
(١) المطرب والمطربة: الطريق الضيق، والجمع المطارب. اللسان (طرب).
(٢) عجز البيت من البسيط: وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٥٣، ولسان العرب (كلب)، (أول)، ومقاييس اللغة ١/ ٤٤٩، وتاج العروس (كلب)، وبلا نسبة فى لسان العرب (أول) وصدر البيت:
* إذ نظرت نظرة ليست بكاذبة*