الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض

صفحة 254 - الجزء 1

باب فى أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض

  ما نسبناه إليها، وحملناه عليها

  اعلم أن هذا موضع فى تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأن فيه تصحيح ما ندّعيه على العرب: من أنّها أرادت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها، وأجمل بها، وأدلّ على الحكمة المنسوبة إليها، من أن تكون تكلفت ما تكلّفته: من استمرارها على ووتيرة واحدة، وتقرّيها منهجا واحدا، تراعيه وتلاحظه، وتتحمّل لذلك مشاقّه وكلفه، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتا منها فى شيء منه.

  وليس يجوز أن يكون ذلك كلّه فى كل لغة لهم، وعند كلّ قوم منهم، حتى لا يختلف ولا ينتقض، ولا يتهاجر، على كثرتهم، وسعة بلادهم، وطول عهد زمان هذه اللغة لهم، وتصرّفها على ألسنتهم، اتّفاقا وقع، حتى لم يختلف فيه اثنان، ولا تنازعه فريقان، إلا وهم له مريدون، وبسيافه على أوضاعهم فيه معنيّون؛ ألا ترى إلى اطّراد رفع الفاعل، ونصب المفعول، والجرّ بحروف الجرّ، والنصب بحروفه، والجزم بحروفه، وغير ذلك من حديث التثنية والجمع، والإضافة والنسب، والتحقير، وما يطول شرحه؛ فهل يحسن بذى لبّ أن يعتقد أنّ هذا كله اتّفاق وقع، وتوارد اتّجه!.

  فإن قلت؛ (فما تنكر) أن يكون ذلك شيئا طبعوا عليه، وأجيئوا إليه، من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من القصود التى تنسبها إليهم فى قوانينه وأغراضه، بل لأن آخرا منهم حذا على ما نهج الأوّل فقال به، وقام الأوّل للثانى فى كونه إماما له فيه مقام من هدى الأوّل إليه، وبعثه عليه، ملكا كان أو خاطرا؟

  قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرا روسلوا به، أو تيقّظا نبّهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيا أو ما يجرى مجراه فهو أنبه له، وأذهب فى شرف الحال به؛ لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه؛ لأن فى طباعهم قبولا له، وانطواء على صحّة الوضع فيه؛ لأنهم مع ما قدّمناه من ذكر كونهم عليه فى