الخصائص لابن جني،

ابن جني (المتوفى: 392 هـ)

باب فى الامتناع من نقض الغرض

صفحة 442 - الجزء 2

باب فى الامتناع من نقض الغرض

  اعلم أن هذا المعنى الذى تحامته العرب - أعنى امتناعها من نقض أغراضها - يشبه البداء⁣(⁣١) الذى تروم اليهود إلزامنا إياه فى نسخ الشرائع وامتناعهم منه؛ إلا أنّ الذى رامته العرب من ذلك صحيح على السبر، والذى ذهبوا هم إليه فاسد غير مستقيم. وذلك أن نسخ الشرائع ليس ببداء عندنا؛ لأنه ليس نهيا عمّا أمر الله تعالى به، وإنما هو نهى عن مثل ما أمر الله تعالى به فى وقت آخر غير الوقت الذى كان - سبحانه - أمر بالأوّل فيه؛ ألا ترى أنه - عزّ اسمه - لو قال لهم: صوموا يوم كذا، ثم نهاهم عن الصوم فيه فيما بعد، لكان إنما نهاهم عن مثل ذلك الصوم، لا عنه نفسه. فهذا ليس بداء. لكنه لو قال: صوموا يوم الجمعة، ثم قال لهم قبل مضيّه: لا (تصوموه) لكان - لعمرى - بداء وتنقّلا، والله - سبحانه - يجلّ عن هذا؛ لأن فيه انتكاثا، وتراجعا، واستدراكا، وتتبعا. فكذلك امتناع العرب من نقض أغراضها، هو فى الفساد مثل ما نزّهنا القديم - سبحانه - عنه من البداء.

  فمن ذلك امتناعهم من ادّغام الملحق؛ نحو جلبب، وشملل، وشربب (ورمدد ومهدد)⁣(⁣٢) وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكثير البلوغ إلى مثال معلوم، فلو ادّغمت فى نحو شربب فقلت: شربّ، لانتقض غرضك الذى اعتزمته: من مقابلة الساكن بالساكن، والمتحرّك بالمتحرّك، فأدّى ذلك إلى ضدّ ما اعتزمته، ونقض ما رمته. فاحتمل التقاء المثلين متحرّكين؛ لما ذكرنا من حراسة هذا الموضع، وحفظه.

  ومن ذلك امتناعهم من تعريف الفعل. وذلك أنه إنما الغرض فيه إفادته، فلا بدّ من أن يكون منكورا لا يسوغ تعريفه؛ لأنه لو كان معرفة لما كان مستفادا؛ لأن المعروف قد غنى بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام. ولذلك قال


(١) البداء: استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، وذلك على الله غير جائز. اللسان (بدا).

(٢) شملل: أسرع. شربب: موضع. ويقال: رماد رمدد: كثير دقيق جدا. ومهدد: اسم امرأة.