باب فى هذه اللغة: أفى وقت واحد وضعت
باب فى هذه اللغة: أفى وقت واحد وضعت
  أم تلاحق تابع منها بفارط؟
  قد تقدّم فى أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هى أم إلهام. وحكينا وجوّزنا فيها الأمرين جميعا. وكيف تصرّفت الحال وعلى أىّ الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بدّ أن يكون وقع فى أوّل الأمر بعضها، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه، لحصور الداعى إليه، فزيد فيها شيئا فشيئا، إلا أنه على قياس ما كان سبق منها فى حروفه، وتأليفه، وإعرابه المبين عن معانيه، لا يخالف الثانى الأول، ولا الثالث الثانى، كذلك متّصلا متتابعا. وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكى كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخر عن أوّل، وتابع عن متّبع. وليس كذلك أهل الحضر؛ لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب فى حروفهم، وتأليفهم، إلا أنهم أخلّوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأى أبى الحسن؛ وهو الصواب.
  وذهب إلى أنّ اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أنّ أوّل ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقا على صحّة وقياس، ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها، غير أنها على قياس ما كان وضع فى الأصل مختلفا، وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظّا. ويجوز أيضا أن يكون الموضوع الأوّل ضربا واحدا، ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأوّل إلى قياس ثان جار فى الصحّة مجرى الأول.
  ولا يبعد عندى ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس، وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأوّل بالقياس الذى عدل إليه الثانى، فلا عليك أيّهما تقدّم، وأيهما تأخّر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به.
  فأما أىّ الأجناس الثلاثة تقدّم - أعنى الأسماء، والأفعال، والحروف - فليس مما